عروقه فقفظ من الترام وتلقى العلم عن أحد الشهداء وذهب يعدو في الطرقات يزأر بأن الحياة لمصر والنيل لبنيه!. . وأحسن بدم البطولة يعود فيجري في عروقه، ويجدد في صدره الحياة، فشمخ بأنفه، وصعر خده، وابتسم ابتسامة استحمت في الدمع المتهاطل من عينيه، ودس يده في جيبه يلتمس علبة سعوطه وأفرغ ما فيها في أنفه وهو يغمغم! (ياما شافت العين يا لوقا. .)
وكأن صدره لم ييحتمل هذا الأنفعال فاستيقظ سعاله، وأخذ يعبث بانفاسه في غير رحمة ولا هوادة، حتى اغرورقت عيناه وانصدع جنباه. هي نزلة شعبية مزمنة مضت سنين وهو يتطبب، وينفق في الادوية نصف اجره الضئيل على غير جدوى. ولم تكن النوبات بادئ الأمر حادة هكذا ولكن مهنته هي التي قضت عليه استقبال هواء امشير البارد وهواء بؤونه الناري هو ما أحدث هذه التهيجات بصدره واتلف رئتيه. . كم هم بترك العمل، ثم كان يذكر حاجة عياله للقوت. فيعود وهو ناقم. يعود لخدمة سيد يرى أرواح خدامه أرخص من أن تفتدى بالواح من الزجاج تقيهم تغيرات الجو! ليس أمامه الا ان يخضع، ويحتمل، ويدفع ثمن قوته من حياته، وينفق سلفا أيامه الآتية ليتقي غوائل الجوع في الغد القريب!. .
ولم تتركه غلته ليفكر، وبدأ يسعل من جديد. . وتنهد. . لو كان له أولاد لكان الآن في دفء الفراش. رجل سيء البلخت. دفنهم بيده اربعة. غيبهم التراب وهم في سن الشباب ليتهم ماتوا صغارا كاخواتهم الآخرين قبل ان تتعلق روحه بهم ويحبهم حبا مفرطا كانت يد المنون تقصفهم كما تقصف الريح السنابل وقد بدأت تمتلئ بالقمح. .
واشتد البرد، وازداد الليل حلكة، وساد الارجاء صمت عميق، وأخذ الرجل ينتفض، خيل إليه أن أولاده الأربعة يحيوطون به، جالسين في اكفنمهم لا تبين منهم غير وجوهم الشاحبة، وانهم يعتبون عليه اهماله في علاجهم، وعدم مواظبته في السهر عليهم في مرضهم، وأمضه هذا الخاطر وأقلق روحه، وذهب الشك الماكر يعذبه، وذهب الوهم يصور له انهم يحتضرون الساعة بين يديه، وانه يسبل أجفاههم، ويطبع على جباههم القبلة الاخيرة.
كان يحسب أن الجراح قد اندملت، وأن يد النسيان قد مسحت الاحزان عن صدره، فاذا بالذكرى تمزق هذه الغشاوة الرقيقة التي نسجها الزمان وإذا بالجراح تتفتح، وإذا به يحسن