وفي ذات صباح وكان يسير شريداً مضيعاً، لمح امرأة تتهادى بين طفلين يلعبان حولها، أما أحدهما فطفل لم يجاوز الرابعة، وأما الثاني فغلام تشرّف على العاشرة
اهتز حين رآها وداخله نحوها شعور ما، ولما لم يكن مخطئاً جمد ولم يستطع حراكاً، فقد فَقَدَ هيمنته على نفسه، ولم يعد إلا عيناً تدور وراءها وتتابع حركاتها. وازداد يقينه حين شعر بحنين عنيف يثور في صدره نحو أكبر الطفلين عندما التفت مرة فوضحت ملامحه. . .
في تلك الليلة لم ينم، فقد سهَّده أمل أشرق ثم خبا. فبات فريسة تفكير مضنٍ طويل: تُرى هل هذا ابنه. . . وهل هي هي. . .؟ وإذا كان فماذا أستطيع أن أفعل. . .؟
وزاد بلاؤه أن طُمِس على ذهنه فلم يدر ماذا يستطيع أن يفعل. . . ولكنه غَنِمَ أن عرف أنها تزوجت رجلاً من جيرتها وكان شهماً فاضلاً غفر لها واعترف بابنها وعُنِي بهما. .!
وكان إشراق وجه ابنه في سماء حياته المظلمة ألماً جديداً فوق آلامه، إذ أشعره ذلَّ الوحدة وعذاب الحرمان، فاضطرب اضطراباً شديداً، وامتلكه اليأس والأسى، وأصبح لا يرجو إلا أن يضم ابنه إلى صدره ويقبله ليشبع منه شوق السنين، وليطفئ لوعة الحرمان التي شبت في نفسه فغطت آلامه جميعها
وقام في ذهنه أن يعترض طريقها، فأسرع نحوها فأخذها من كتفها؛ فلما التفتت إليه صرختْ صرخة رعب مكتومة، وحنَتْ على ولديها فطوّقتهما وأسرعت تجري بهما
ومر شهران يئس فيهما أن يراها أو يرى ولده. وحنق على نفسه أن حرمها رؤية ولده ولو عن بعد. فجعل يكتب لها. . . كتب لها نحو عشرين رسالة لم يتلقّ رد واحدة منها! فأحس مرارة الخيبة تمور في ألم الحرمان فترهقانه وتعذبانه عذاباً أليماً
ولما يئس أن يراها فكر وقدّر، ثم فكر وقدر، فلمعت له في ظلمة يأسه خاطرة هي أن يكتبَ لزوجها. . . ولما جاءه الرد أنه يسره أن يلقاه في مساء يوم معين لم يكن بأسعد حالاً مما لو كان أهمله كما أهملته هي من قبل. فقد كان دَقُّ قلبه - وهو يصعد الدرج - سريعاً مزعجاً. وكان ينتزع رجليه انتزاعاً ويراود نفسه - وهو صاعد - أن يرجع!
وكانت ثيابُ الرجل السود ورهبته فيها وسحنته المتزنة الوقور التي طالعه بها. . . كان كل ذلك قد خلع قلبه وطير ما بقي له من قوة واتزان. وحين أشار له الرجل أن يجلس،