أضعت على نفسي وعلى (الرسالة) فرصاً لن تعود. . . وهل أملك ردّ العواطف التي ثارت ثم خمدت في تباريح السنة الماضية؟
(تلك أيامٌ خلت) ولن يردها أسفٌ ولا بكاء!
إذا صح أني مفطور على إحساس الفرح والحزن في الحياة، وإذا صح أني أقوى ما أكون حين أفرح أو حين أحزن، فكيف يضيق صدر وطني وزمني عن سماع سجعاتي وزفراتي؟ وبأي حق يحرم عليَّ ما يباح للشعراء في جميع البلاد؟
وهل تصدقون أن الناس يكرهون حقيقةً أن تحدثهم عن أزمات الأفئدة والقلوب؟
وهل صدق الأستاذ فكري أباظه حين حدّث الناس عن طريق المذياع باندهاشه من أن يسمع أغاني الهجر والوصل والدنيا في حرب؟
وهل تظنون أن هذا الخطيب يقضي أيام الحرب في التخشُّع والقنوت أمام المحراب؟
الدنيا في حرب، وسيعقب الحرب سلامٌ بعد عام أو عامين، ولكنكم تنسون أن الشاعر يعاني حرباً لا يصد شرها عنه غير الموت، إن صح الموت يريح أرواح الشعراء من البلاء بالتفكير في أسرار الوجود
وما الذي يوجب الخضوع للأفكار العاتية التي تتوهم أن الحرب تقدر على زلزلة السريرة الإنسانية؟
الحرب تستطيع أن تصنع بالسريرة الإنسانية ما تصنع العواصف بأمواج المحيط، فهي تقلقل المنافع من وقت إلى وقت، ولكنها تعجز عن اقتلاع ما في السرائر من جذور الحب والبغض والهدى والضلال
والشاعر ينظر إلى من حوله من الناس نظرات مختلفات: فيرى بكاءهم مرةً كبكاء أطفال، ويراه مرةً زئير اسود. فالطفل لا يذكر من الحرب غير تنقل (التسعيرة) من وضع إلى وضع، ويكون مثله مثل الطباخ الذي انزعج لارتفاع أسعار القطن لأنه رأى ذلك نذيراً بارتفاع أسعار الزيت!
أما الرجل - والشاعر الحق هو الرجل الحق - فيرى أن الحرب لا تكون سيئة العواقب إلا أن استطاعت بفواجعها أن تقتلع من السريرة الإنسانية جذور الإحساس بمعاني الحياة.
وهل في الحياة معانٍ أشرف وأفضل من الحرص والشره والطمع في أنتهاب أطايب