للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الوجود؟

شغلت نفسي مرةً بتأريخ ملاهي الحي اللاتيني في باريس، فجمعت أكثر من خمسين كتاباً تحدث مؤلفوها عن ملاهي ذلك الحي، ثم راعني أن ألاحظ أن تلك المؤلفات كتبت قبل الحرب العالمية، فعرفت أن الباريسيين بعد تلك الحرب فقدوا شعورهم بتذوق الحياة فلم يعودوا يهتمون بتسجيل ما يصادفهم من النعيم في ذلك الحي البهيج

فإن استطاعت الحرب الحاضرة أن تشغلنا عن أحاديث الهجر والوصل فسيكون معنى ذلك أننا صرنا أطفالاً ضعافاً لا يهمهم من الدنيا غير اعتدال أسعار (اللِّعب والصواريخ)!

أقول هذا وفي مكتبي مقال لم يسمح بنشره الأستاذ الزيات، لأنه خشي أن يفتح لخصومي باب الأقاويل والأراجيف، وهو مقال سجلت فيه إحساسي بفراغ شارع فؤاد من أقدام الملاح يوم تجربة الغارة الجوية. فهل من الحق أن الحرب رجت مصر رجةً تذهب بما يملك شعراؤها من عواطف وأحاسيس؟

وهل من الحق أن أهل مصر لم يعودوا يأنسون بغير حديث البقول؟

أعترف بأني توجعت مرة على صفحات الرسالة من غلاء الورق، وذلك توجُّع مشرِّف، لأن الأمة التي تشكو غلاء الورق هي الأمة التي تُعزّ الأفكار والعقول، وكل شيء في دنيانا من الكماليات إلا الورق فهو عندنا من الضروريات، والمصري المثقف قد يكتفي بالقليل من القوت، ولكنه لا يستغني أبداً عن زاده من الحبر والورق

ونحن قومٌ آذتنا الظروف الدولية أقبح الإيذاء، فليس لنا من السيطرة الاقتصادية أو الحربية ما للأمم الديمقراطية أو الدكتاتورية، ولكن لنا مع ذلك سيطرة عقلية نصول بها في أقطار الشرق.

ولو شئت لقلت أننا نملك من هداية الشرق ما لا يملك الإنجليز والفرنسيس والألمان، ولهذه الدولة الروحية سلطانٌ يحسدنا عليه من يملكون في تصريف السلم والحرب ما لا نملك، فليس من العجيب أن نشكو غلاء الورق في زمن لا يشكو فيه المسيطرون غير غلاء القوت

والشرق ينتظر أن نحدثه عن نفسه بما لا يعرف

فكيف يغيب عنا أن من الواجب أن نكون أفصح من يذيع في الشرق أحاديث السريرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>