بعض الرزق، حين واتاهم القدر ببعض السلطان والجاه والسيطرة، وأقامتهم الشهرة الذائعة أنصاباً تهوي إليها الأغراض، وتناط بها الوسائل، وتعتمد عليها الحكومات في تقدير العلم والأدب وأهلهما والعاملين عليهما، وكذلك من لا يستطيع أديب أو عالم أو فيلسوف أن يجتاز إلا بإجازة من أيدهم وبأختامهم، وإلا أن يشهدوا له شهادة التقدير، وأن يعبروا له السِّعر في (تسعيرة) السوق الأدبي الذي أقامتهم الحظوظ عليه حكاّماً ومقوِّمين
إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب فبناءُ العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل، وبناء الأدب على صدق الإحساس وحدة الإدراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء. فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تشرع، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل. والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام، وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فرض عليه في تحصيله بالذاكرة، ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الإهمال والنسيان أو الضعف أو الفساد. فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملاً شهادته مندمجاً في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي - أو هكذا يجب أن يكون - ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟
وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه مغسولاً غفلاً من (مكياج) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه. . . وما إليها، وإذَن، فأوْلى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة، والشهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقل العلم وأشفُّ الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة
إن هذه التجارة التي تقوم على استعباد العلم والعلماء والأدب والأدباء تجارة باغية ينبغي أن تفنى نخاستها وأن تغلق أسواقها، وينبغي أن يتحرر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلاً من أغلال الضرورات المستحكمة ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفع، وليهتكوا تلك الأستار الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد