الطاغية المعتصمة بنفسها المتعالية عن الناس، فليس من شك في انه سيغتبط ويبتهج حين يعلم أنه قد شغل المثقفين في مصر أسبوعاً أو أكثر من أسبوع، ولم يثر في نفوسهم الا حباً له وإعجاباً به وعناية بآثاره، وجداً في قراءتها أو الاستمتاع بما فيها من جمال. نعم وسيبتهج ويغتبط حين يعلم ان المثقفين من أهل مصر قد نظروا إلى هذا أسبوع الذي أقامه بينهم محاضراً متحدثاً كأنه عيد من أعياد الثقافة العليا، خلصت فيه نفوسهم من أثقال الحياة اليومية وأعبائها وتكاليفها وما تثيره من الخصومات وما تبعته من الهموم التي تضعف القلوب، ومن الأحزان التي تميت النفوس، ومن المشاغل التي تنحط بالعقول عن مكانتها وتبتذلها ابتذالا.
بدئ هذا الأسبوع حين ألقى جول رومان محاضرته الأولى في مدرسة الليسيه الفرنسية، وختم حين ألقى محاضرته الأخيرة في قاعة الجغرافية مساء الخميس الماضي، وكان في محاضرته الأولى يتحدث عن وطنه فرنسا ورأى الأفراد والشعوب فيه، وكان في محاضرته الأخيرة يتحدث عن نفسه وعن كتابه الأخير، وعن رأي الناس من مواطنيه ومن غير مواطنيه فيه وفي هذا الكتاب. وكان فيما بين ذلك يتحدث عن العقل وعما أحدث في حياة الناس السياسية من خير، وما ينتظر أن يحدث في مستقبل حياتهم من خير. وكان فيما بين ذلك أيضاً يتحدث إلى الجماعات والأفراد أحاديث خاصة في موضوعات مختلفة من الأدب الفرنسي والأجنبي، ومن السياسة والفلسفة والاقتصاد. وكانت أحاديثه ومحاضراته كلها متعة عالية ممتازة للذين استمعوا منه وتحدثوا إليه. ذلك إن جول رومان ليس أديبا عادياً من هؤلاء الأدباء الذين ينتجون الآثار الأدبية القيمة دون أن يمتازوا بأكثر من قدرتهم على الإنتاج وبراعتهم فيه إنما هو أديب ممتاز حقاً. ولعل خير ما يميزه من الأدباء انه من هؤلاء الأفراد القليلين الذين جعلت نفوسهم مرآة صافية شديدة الصفاء. تنعكس فيها صور الحياة التي تحيط بها، فإذا وصلت إليها استقرت فيها. وما تزال الصور تتبع الصور دون أن يطغى بعضها على بعض أو يفسد بعضها جمال بعض وإذا أنت أمام نفس من أغنى النفوس، أمام نفس لا تصور فرداً ولا بيئة، إنما تصور شعباً كاملاً، وإنما تصور خلاصة كاملة لأرقى ما تصل إليه الثقافة في عصر من العصور. فالذين كانوا يسمعون من جول رومان أو يتحدثون إليه إنما كانوا يسمعون من العقل الفرنسي كله،