يومه مغموراً بأريحيته وتصافى الرجلان، وحل الوئام محل الخصام
ولكن هذا الصلح كان كصلح (فرساي) يحمل في تضاعيفه جراثيم حرب ضروس! فلم يلبث أعداء الخوارزمي والمستوحشون منه أن سعوا في نقضه فهبت ريح الخلاف مرة أخرى شديدة عاتية! فلم يكن بدّ من عقد مناظرة ثانية تكون فصل الخطاب في هذه القضية الشائكة
وكان أن هُيّء مجلس في دار أبى القاسم الوزير، حضره بعض العلية على رأسهم رجل له مكانته وخطره، وهو الشريف العالم أبو الحسين، وكان البديع سنياً متعصباً للأشاعرة، والخوارزمي مصطبغاً بصبغة التشيع، فرهب البديع جانب أبي الحسين، ورغب في استمالته إليه، فمدحه ومدح آل البيت بقصيدة أولها:
يا معشراً ضرب الزما ... نُ على مُعرَّسهم خيامَهْ
ثم انثال الناس على المجلس من كل صوب وأوْب، حتى حفل بذوي المثالة من رؤساء المدينة وعلمائها وقضاتها ومتصوَّفها. وأقبل الخوارزمي - بعد لأي - في جمّ غفير من أنصاره ومُرِيديه.
وبعد ملاحاة ومشادة بين المتناظرين، تشبه التحام طلائع الجيوش، اقترح عليهم بعض الحضور أن ينشدا على غرار قول أبى الشيص:
أبقى الزمان به نُدُوب عِضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي قائلاً:
يا قاضياً ما مثله من قاضِ ... أنا بالذي تقضى علينا راضِ
ومنها:
ولقد بُليت بشاعر متهتِّك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض
فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض؟ فقال الخوارزمي:
ما قلته - هكذا يزعم الرواة - فشهد الحاضرون أنه قاله. فقال: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا. فقال البديع: استنوق الذئب! صار الذئب جملاً يأكل الغضا!
وهنا هدأت العاصفة بدخول الرئيس أبي جعفر، والقاضي الحربي، والشيخ أبي زكريا الحيري.