للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقلبك وأحبة لنفسك، وأنفقت أيامك فيها في دار العلوم طالباً وكلية الآداب مستمعاً، وفي (الفتح) و (الزهراء) كاتباً ومحرراً، وعند خالك محب الدين الخطيب سعيداً ومستفيداً. ثم بدا لك. . . وعاودك الحنين إلى وطنك، فعدت إليه فعينوك للصبيان معلماً، وقدمّوا الجاهلين عليك؛ فهزأت بهم وسخرت منهم، وخرجت من بلدك تبتغي العراق فعلمّت في ثانوياتها الأدب، ثم قصدت الحجاز وعبرت الصحراء، ثم عدت إلى بغداد، ثم رجعت إلى دمشق وإذا بهم يمكرون بك مرة أخرى

ذلك لأنك من هذا البلد. . . وأن هذا البلد قد اعتاد وأد أبنائه. . .

عفواً يا بلدي الحبيب!

فتلك شيمة أبنائك. . . يكرمون الغريب ولو كان جاهلاً، ويفتحون له صدورهم، ويوسعون له في دورهم، ويؤثرونه على أنفسهم. . . ويموتون هم من الجوع. . . فإذا تولى عنهم رماهم بكل قبيح، ولكنهم يصفحون عنه، ويسعون لاستقبال غريب آخر. . .

نعم، تلك شيمتك وشيمة أبنائك يا بلدي. . .

ولقد أعجبني أنك ظهرت في كتابك أديباً حقاً، يهزك كل شيء، وتحن إلى كل شيء. . . والأديب الحق من إذا رأى شيئاً أثر فيه، فحرك نفسه، ودفعها إلى الكتابة. لقد طوفت في ربوع الشام. . . فحركت نفسك روائع دمشق، هذه الزهرة الناعمة التي نبتت على أطراف الصحراء، يسقيها بردى بدموعه، ويحرسها قاسيون الجليل بنفسه، والتي يسعى إليها الملوك ليتمتعوا بنظرة منها، ويستنشقوا عطرها. . . فوصفت ما رأيت وأبدعت. وقد أعرض قومك عن تلك الروائع ولم يحفلوا بها، ثم ذهبت إلى العراق، فرأيت وسمعت، وتذكرت الماضي المجيد يرقص على شطآن دجلة، ويرتع في جنبات بغداد، فقلت عنه ما قلت، ثم أوليت العروس حبك. . . فلما رأيت الإيوان هاج حسك، ثم زرت سر من رأى، فهاجت شجونك. . وأنت في كل مرة تكتب وتغني. ثم ذهبت إلى الحجاز - فذكرت محمداً سيد العالم - عليه صلوات الله وسلامه، ورأيت النور ينبثق من هاتيك النجود، فيغمر الدنيا. . . فذرفت دمعة على الماضي الفخم يواريه أبناؤه التراب ولا يحفظونه، ويستبدلون بالعز ذلاً، وبالحرية قيداً، وبالسيادة عبودية. ثم ذكرت العقيق وأيامه، وسمعت الشعر الطروب والغناء الراقص والحب الرفاف. . . فحننت ووصفت، ثم عدت إلى بيروت

<<  <  ج:
ص:  >  >>