للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كانت القاهرة في ماضيها مدينة محدودة النطاق. وكان لها أسوار وأبواب. وكان حراسها يطوفون أرجاءها في ساعة أو ساعتين ثم يصعد رئيسهم فوق منارة ويصيح:

(ناموا، أيها المسلمون، فأنتم في أمان)

فأين نحن من ذلك الأمان وقد جَدَّت في دنيانا معاطب غير عدوان اللصوص على المتاجر والبيوت؟

يستطيع كل قاهريّ أن يطمئن إلى أن منزله أو متْجره في أمان من سطوات الليل؛ ولكن أين الأمان من عدوان الشياطين، شياطين الغرائز والنحائز والطباع؟

من يضمن لك الأمان في مدينة القاهرة وهي اليوم مَسْبَعَة عقلية تصطرع فيها المذاهب والآراء، ولا يغمض فيها جفن إلا وهو مروَّع بقلب ساهر لا يعرف السكون إلا يوم تمن عليه المقادير بالموت؟

من يضمن لك الأمان في مدينة مثل القاهرة وأنت من نفسك في حرب، ومن الزمان في قتال، ومن الزملاء في نضال؟

يجب أن تعرف أنك في دنيا جديدة لا يَسلَم من خطوبها وصروفها غير من أمدته المقادير بالصبر عما في القاهرة من اصطراع العواطف واصطخاب الأهواء

فهل أنت من الصابرين؟ وكيف تصبر عن القاهرة، وهي قاهرة وفي دمك وروحك أقباسٌ من سعيرها العَصُوف؟

ألم تسمع ما وقع يوم أقيمت مباراة الأناشيد العسكرية؟

تلقت اللجنة خمسمائة نشيد ولم تختر غير خمسة أناشيد. فقال القائلون: هذا شاهد جديد على أن دولة الشعر يكثر فيها الأدعياء!

وكان ذلك لأننا نعيش في القاهرة مدينة الأناقة والفخامة والزخرف والبريق، وفي مثل القاهرة تُقهر العواطف وتُظلَم القلوب. وإلا فكيف جاز أن ينسى المحكّمون ما في تلك الثروة الشعرية أو النظمية من الدلالة على حرارة الأفئدة وشهامة العقول؟

خمسمائة نشيد؟ معنى ذلك، أيها الناس، أن القاهرة فيها خمسمائة قلب، وذلك مغنمٌ عظيم. ولكن أين من يقيم الميزان لحَيَوات القلوب وهي لا تُوزن ولا تقاس ولا تكال؟

وهل يَشقى في المدائن العظيمة غير أصحاب القلوب؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>