للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تلك الجناية في إحدى ضواحي باريس، وقد أثارت في حينها اهتماماً شديداً بين الناس وخاصة في البيئات القانونية. كانت الشبهات قوية في المتهم، ولكن ينقصها الإثبات القاطع. ولقد دافع المتهم عن نفسه دفاعاً قوياً حتى أحسست وأنا في كرسي النيابة بشعور الشك بل بالعطف يستولي على المحكمة. وأنت تعلم ما لهذا الشعور من تأثير!

ولكني كذبت بالبراهين المنطقة القاطعة كل ما أنكره المتهم، وأزحت الستار أمام القضاء عن سلسلة من الحقائق لا مجال للشك فيها. ولأستطيع أن أقوي أدلة اتهامي، كشفت عن نفسية الرجل وعن ماضي حياته مظهراً كل ما في خلقه من ضعف وما في أعماله من دناءة. وختمت مرافعتي القوية بطلب القصاص من المجرم! وقام الدفاع بعد ذلك بكل ما في مكنته لتفنيد أدلتي، ولكنه حاول عبثاً. . . وحكم على الرجل بالإعدام

لم يكن للعطف على السجين حينذاك مجال للوصول إلى نفسي. فلقد كنت مندفعاً في إثبات مقدرتي وفصاحتي، وكان الحكم عليه انتصاراً باهراً لي

ورأيت الرجل ثانية في صباح يوم التنفيذ. ذهبت لأراه وهم يسوقونه إلى المقصلة. فلما رأيت وجهه الغامض اعتراني فجأة شيء من الاضطراب والضيق. . . إن تفصيلات تلك الساعة المشؤومة لا تزال ماثلة في مخيلتي!. . . لم يبد أي مقاومة وهم يوثقون يديه وقدميه. لم أجسر في تلك اللحظة على النظر إليه، لأني شعرت بأن عينيه مصوبتان نحوي في هدوء غير معهود. ولقد صاح حين خروجه من باب السجن ومواجهته المقصلة: إني بريء! وخيّم السكون على الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير. ووجه الرجل الكلام إليّ قائلاً: أنظر إليّ وأنا أموت، فإن ذلك يستحق بضع دقائق من وقتك. ثم عانق القسيس ومحاميه. . . وكانت برهة من أفظع ما مر في حياتي

في خلال الأيام التي مرت على ذلك الحادث، كنت مبلبل الخاطر مضطرب الفكر. كان موت ذلك الرجل هو الشيء الوحيد الذي يستولي على ذهني فلا يدع مكاناً لسواه. وقد كان زملائي يطمئنونني بقولهم: إن ذلك يحدث دائماً في أول مرة

وكنت أصدقهم. إلا أني أدركت على تراخي الزمن أن هناك سبباً لهذا الاضطراب وهو: الشك! ومنذ اللحظة التي فطنت فيها إلى ذلك لم يهدأ لي بال. كنت لا ألبث أن أسائل نفسي: ترى هل كان الرجل بريئاً؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>