جاهدت بكل ما في استطاعتي أن أبعد عن خاطري تلك الفكرة، محاولاً أن أقنع نفسي أنه مجرم؛ ومحال ألا يكون كذلك، ولكني كنت أعود فأسائل نفسي: أي دليل حقيقي على إجرامه؟ وتتمثل في مخيلتي لحظات الرجل الأخيرة وهو واقف على المقصلة في هدوء، ويطن في أذني صوته وهو يقول: إني بريء!
قال لي يوماً أحد الزملاء:
ما كان أبدع دفاع هذا الدفاع عن نفسه! لقد كان من المدهش أنه لم يُبرّأ. . . أقسم لك أني لو لم أسمع مرافعتك لاعتقدت أنه بريء!
إذن كان سحر كلامي وقوة رغبتي في النجاح، هما اللذين تغلبا على تردد النظارة، وربما كان لهما أكبر الأثر في تكوين رأي المحكمين. أنا وحدي كنت السبب في قتل هذا الرجل. فإذا كان بريئاً، فأنا وحدي المجرم المسئول عن موت هذا البريء. . .
إن الإنسان لا يتهم نفسه بشيء دون أن يحاول الدفاع عنها وقبل أن يقوم بكل ما يمكن ليريح ضميره. ولقد كان هذا شأني بالنسبة لهذه القضية: فلكي أنجو بنفسي من هذا الشك المؤلم، راجعت أوراق القضية من جديد. . . ولما أعدت قراءة مذكراتي ومستنداتي، وجدت كل ما بها منطقياً معقولاً. . . إلا أنها مذكراتي أنا ومستنداتي أنا، وهي عمل عقلي الذي حكم على المجرم أولاً، ثم راح يبحث عن الأدلة، عمل إرادتي، وقد استعبدتها الرغبة في إثبات الجريمة على المتهم. . . فدرست وجهة نظر الدفاع من جميع وجوهها. . . أعدت قراءة إجابات المتهم وشهادات النفي الخ. . . وقررت أن أتأكد من بضع نقط فيها شيء من الغموض، ففحصت المكان الذي وقعت فيه الجريمة بدقة، وسألت شهوداً كان قد أُهمل استجوابهم. فلما فرغت من دراسة هذه التفاصيل انتهيت إلى نتيجة حاسمة: وهي أن الرجل كان بريئاً!
وكأن الظروف أرادت أن تشغل ضميري، فصدر الأمر وقتئذ بترقيتي!. . . ترقية هي في الواقع ثمرة لجريمتي الشنيعة.
كانت الشهامة تقضي بأن أعترف بخطئي على الملأ حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيري. إلا أني كنت أجبن من أن أفعل ذلك. كنت أخشى غضب الناس واحتقار الزملاء، فاكتفيت بتقديم استقالتي دون أن أبين بها الأسباب، ثم سافرت بعيداً عن باريس. ولكن وا