تفيد الاضطراب والتقلقل والتحرك، حقيقة ومجازاً، ثم إنها خرجت من ذلك - من باب إطلاق العام على الخاص - إلى المعنى الذي تمهل عنده الصديق، والذي غلب عند عامة الناس لهذا الزمان. ومن ذلك المعنى الأول، وهو الأصل، ما جاء في حديث عطاء:(لا دق ولا زلزلة في الكيل، أي لا يحرّك فيه)، وفي حديث أبي ذرّ:(حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل)، (عن (لسان العرب)). وعلى ذلك أيضاً قولهم:(جاء بالإبل يزلزلها: يسوقها بعنف)(عن (أساس البلاغة) مادة ز ل ل). كيف غاب كل هذا عن صديقي والقرآن في صدره والتفسير والحديث واللغة شواغله. هل زلزل (الناي) ذاكرته؟
وقد خطر للصديق محمود - ومحمود كثير الخواطر - أن يقول لي:(لماذا تريد ألا يكون طرب أذنك إلا زلزلة؟). فإني ألوذ بالصبر فأقول: لأن الزلزلة والطرب على مجاورة. مصداق ذلك أن استعمال لفظ الزلزلة للدلالة على الطرب الشديد قديم في أدبنا. ففي (الأغاني)(ط بولاق ج٦ ص٨٠): (فتغنيت (والمتكلم إسماعيل بن جامع المغني) بصوت لي. . . فتزلزلت والله الدار عليهم) وفي (الأغاني) أيضاً (ج٥ ص٢٤) عند الكلام على غناء إبراهيم الموصلي وضرب منصور زَلزَل بالعود في حضرة الرشيد: (فزلزلا الدنيا)، ومن ذلك قول العرب:(والزُلزُل: الطبّال الماهر)(عن لسان العرب)، ولعل اسم (زَلزَل) المتقدم ذكره من هاهنا كذلك
وأما أن تُزلزَل الأذن من شدة الطرب دون سائر البدن فكلام أُنزله منزلة الدعابة، وإلا فَلْيسْتفسرْ الصديقُ العربَ قولَهم:(تزلزلت نفسه: رجعت عند الموت في صدره)(لسان العرب: ز ل ل)، وقولهم في وصف النزال:(وزلزلت الأقدام من ولولة الأنجاد)((الألفاظ الكتابية) للهمذاني بيروت ١٩١٣ ص١١٧ ثم ٢٣٥). . . إن لكل مقام مقالاً: على هذا تلقَّينا البلاغة!
فالطرب الشديد يزلزل الأذن أية زلزلة حتى إن السامع المطراب يتمنى لو يجنب الناي أو العود خشية الإعياء، كالعاشق أضناه عشقه وعناه فيود لو يفر من معشوقه اتقاء التلف
وإن استكثر محمود زلزلت الأذن أي اضطرابها وتقلقلها ساعة الطرب الشديد، فليسأل صاحب (الأغاني) عن صحة قوله (ج١٨ ص١٢٧): (اندفع عمرو بن الكنات يغني على جسر بغداد أيام الرشيد، فحبس الناس واضطرب المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت