قضي على حياة المتنبي بعد أن قضى على كرامته أيضاً، فأنت تذكرين أنه هوجم في الطريق فأراد أن يهرب، ولكن غلامه ذكره بكلام ينسب له لنفسه فيه الشجاعة، فارتد ونازل مهاجمه حتى لاقى حتفه. . . فلو لم يكن المتنبي يتهاون في الحق أحياناً لما فخر بشجاعته وهو يعلم أنه غير شجاع، ولو كان قد أظهر نفسه على حقيقتها في شعره لما اضطر إلى أن يقف في آخر ساعة من ساعات حياته هذا الموقف المضطرب الذي مات فيه. . إن المتنبي لم ينته هذه النهاية إلا لأنه اضطرب بين فنه وأطماعه. . . بين بيت الشعر الذي يفخر فيه بشجاعته وبين حبه للنجاة ورغبته في مواصلة التجوال بين أرباب العروش. . .
- فإذا كنت أنت في موقفه فماذا كنت تصنع؟
- أما أنا فإني لا أفخر إلا بالذي أتحلى به من الفضائل أن كانت في فضائل، وإني لا أذكرها على سبيل الفخر، وإنما أسردها سرداً كما أسرد كل ما في من العيوب، ولعلك تقرين بأني أكثر من رأيت من الناس إظهاراً لعيوبهم، وهذا من غير شك هو انتقام الطبيعة إلى سلطتني على عيوب الناس ومحامدهم أذكرها وأرددها، فأنا مع نفسي مثلما أنا مع الناس، وما دمت غير شجاع فلا يمكنني أن أقول أني شجاع ومقاتل، وهذا هو الذي كان يمكنني من الهرب عند هجوم العدو لو أني كنت المتنبي. . .
- وما الذي يمنعك ما دمت تعترف بأن لك عيوباً من إصلاح هذه العيوب؟
- لا شيء. ولا ريب أن من ذكر عيوبه كان هذا دليلاً منه على نية إصلاحها، وهو من غير شك ينصلح قليلاً قليلاً، ويتخلص من نواحي الضعف فيه شيئاً فشيئاً، ومهما يكن فإن الصدق الذي يميزه ليس شيئاً هيناً. . .
- أنا لا أوافق على أن يكون هذا الصدق مبرراً يستبقي الإنسان به عيوبه، ويفضح به عيوب الناس. أن هذا صدق قبيح يجب أن يزول. . .
- أما أنه قبيح فانه يكون قبيحاً. . . ولكن هذا لا يعنيني ولا يعنيه، ولا يحط من قدره، فليس بعيب الصبر أنه مر، ولا يعيب الليمون أنه حامض، وإنما الصبر المعيب هو الذي فقد مرارته، والليمون المعيب هو الذي عطب فذهبت حموضته. . .
- يا لباقتك! أما تستطيع أن تحبس هذه اللباقة لنفسك وإن تنتفع بها. . .؟