وخيل إلى الفتى في مجلسه البعيد من خياله أشياء؛ فكأنما هذا الاجتماع الحاشد، وهذا الثناء الرطب، من اجله هو وحده، وكأنه هو هو ولا أحد هناك، فأطرق رأسه من خجل كذلك، لا يزيد على أن يبتسم!
وماذا يضيره أن يجهل الناس اسمه ومكانه وانهم ليعرفون من يكون بآثاره وأدبه؟ ماذا يضيره أن يكون كتابه في أيدي القراء بلا غلاف ولا عنوان. . .؟
ومضت ساعة ووقف الأديب الكبير ليؤدي واجبه لهؤلاء الذين اجتمعوا لتكريم أدبه والحفاوة به، وأخذ يقرأ من غيب صدره:
(أيها السادة!)
(. . . وأشكر لكم هذا التقدير الغالي. . . وإن أمة تحتفي هذه الحفاوة بالنابغين من أدبائها لحقيقة بالخلود. . .)
وقال الرجل الذي يجلس إلى جانب الفتى في الصف الأخير ونظر إليه: لله ما أحكم منطقه وأسد بيانه!
قال الفتى: شكراً!
وسمعها الرجل وابتسم؛ فما يملك أكثر من أن يبتسم، وأنه ليعرف أن مجالس الأدب هي أحفل المجالس بالمجانين
واستمر الأديب الكبير يخطب:
(إني لمدين للأمة بما أبذل لها من أعصابي ومن دمي؛ شاكر لله ما وهب لي من قدرة تهيئني لأن أكون بهذا المحل الرفيع بين أبناء قومي. . .
(. . . إن الأدب الذي يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقاً إلى المجد والخلود. . .)
والتفت الفتى إلى جاره يقول: (لقد نسى فقرة طويلة. . . إنها كانت أجمل ما في خطبته!)
ونظر إليه جاره فلم يتمالك أن ضحك؛ فوضع راحته على فمه يكتم ضحكته أن تسمع؛ وتنبه الفتى بعد سهوة، فأحمر وجهه ثم أصفر؛ ثم نهض فغادر المكان. . .!
ونهض الفتى من فراشه مبكراً بعد ليلة ساهدة؛ فقصد إلى دار الأديب الكبير يهنئه على ما نال من إعجاب الناس وما ظفر به من التقدير والمكانة، ويستعينه على أمر. . .
وقرأ صحف الصباح في الطرق؛ فعرف ما فاته مما كان في الليل. . .