ثم عزيت نفسي عن ذلك بما أغناها الله به من مثل هذه الآراء والأفكار، وانتظرت ما ينتهي إليه أمر الأستاذين الجليلين في ذلك الموضوع، فلعلهما يتركان لمثلي الكلام بعدهما، ويكون لي ما أعقب به عليهما. فلما فرغا منه وجدت الموضوع لا يزال في حاجة إلى التحقيق، ورأيت أنهما لم يصلا إلى تلك النصوص السابقة، ولو أنهما وصلا إليها لتغير نظرهما في ذلك الموضوع
لقد ذكر الأستاذ العبادي في أول ما كتبه عن السفاح انه كان شاباً متصوفاً، عفيفاً، حسن المعاشرة، كريماً، معطاء، ذا شعرة جعده، طويلاً، أبيض، اقني الأنف، حسن الوجه واللحية، ورتب على هذا رأيه في معنى لقب السفاح الذي عرف به انه بمعنى الكثير العطاء، وليس بمعنى السفاك للدم، لأن مثل تلك الصفات التي كان السفاح يتحلى بها إنما تلتئم مع المعنى الأول للسفاح وهو المعطاء، ولا تلتئم مع المعنى الثاني، لأنه معنى ذم لا يلتئم مع تلك الصفات الكريمة.
والأستاذ العبادي مسبوق بهذه النظرة إلى معنى السفاح الذي لقب به أبو العباس، فقد ذكر الأستاذ حسن إبراهيم حسن في بعض تعليقاته على كتابه (الفاطميون في مصر) أن الأستاذ نيكلسن قال في بعض كتبه: يقول الأستاذ بيفان الذي أدين له بهذه الملاحظات أن ترجمة لفظ السفاح ولو أن استعمالها قد شاع بين الكتاب الأوربيين لا تزال مثار الكثير من الشك، وقد ذهب الأستاذ دي غويه إلى القول بأن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح، وانه مما يهمنا ملاحظته أن هذا الاسم قد أطلق على بعض شيوخ القبائل في الجاهلية، ويقال إن سلمة بن خالد الذي قاد بني تغلب في موقعة بني كلاب الأولى (ابن الأثير - طبعة ترنبرج ج١ ص٢٤٦) سمي السفاح لأنه أفرغ مزاد جيشه قبيل الموقعة، ثم قال: والذي أميل إليه انه إنما سمى بهذا الاسم لقوله في أول خطبة له (فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح)
وفي هذا النقل بعض من الاستقصاء العلمي الذي عرف به المستعربون الأوربيون، ولكن فيه مع هذا تخليطاً كثيراً نحب أن ننبه هنا إليه، ثم نعود إلى موضوعنا، فقد سميت الموقعة في ذلك النقل موقعة بني كلاب، وهو خطأ في التسمية، وإنما هو يوم الكلاب الأول من أيام بكر وتغلب، وقد جاء في القاموس (وكلاب كغراب موضع وماء له يوم) وكان هذا اليوم