السادس عشر؛ ثم نمت نمواً عظيماً في القرن الثامن عشر بفضل جهود بعض المشرعين والأخلاقيين، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والواقعيون في الحقيقة قسمان: قسم يرد الحقوق كلها إلى أصل من المنفعة العامة، ويرى أنها لم تنشأ ولم تتكون إلا تحت تأثير هذه المنفعة؛ ويذهب القسم الآخر إلى أن الحق وليد القوة، نشأ في كنفها وتربى على حسابها، ولولا القوة ما عرفت الحقوق ولا سلم بها
وربما كان مشرعو القرن الثامن عشر وفلاسفته أول من بنى فكرة الحق على أساس من المنفعة العامة، وفي مقدمتهم أستاذ القانون الجنائي بيكاريا الإيطالي، والأخلاقي الإنجليزي بنتام، والفيلسوف الفرنسي هلفسيوس. ثم جاء واقعيو القرن التاسع عشر عامة ورجال المدرسة الفرنسية خاصة فساروا في هذا الاتجاه وأيدوه كل التأييد. فنرى في إنجلترة جون استورث مل وسبنسر، وفي ألمانيا جيرنج، وفي فرنسا الفقيه الشهير ديجي؛ وكل هؤلاء يلتقون في نقطة واحدة، وهي أن الحقوق أثر من آثار الحياة الاجتماعية، ولولا المجتمع ما عرف حق ولا قدس واجب. فالحقوق إذن تتغير من بيئة إلى أخرى، وتخضع لمختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية. وإذا كانت المصلحة الذاتية تدفع بعض الأفراد إلى التشبث ببعض الحقوق والمطالبة بها، فإن المصلحة العامة هي الحكم الفصل في كل هذه الشئون؛ والشرائع الراقية تتخذ من هذه المصلحة الدعامة لكل القوانين، فلا حق إلا ما طابقها وجاء موافقاً لمقتضياتها، وإذا كان أنصار النظرية المثالية يعتدون بالفرد وحقوقه، فإن هذه الحقوق لم تعرف إلا عن طريق المجتمع؛ وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الحقوق أول أمرها كانت شعبية طائفية، ثم تطورت على مر الزمان وظهرت حقوق الأفراد بجانب حقوق الهيئات والجماعات
لقد نجح هؤلاء الواقعيون في تفسير الحقوق على ضوء الحاضر والماضي، وربطوا فكرة الحق بالمجتمع؛ فأصبحت ذات وجود خارجي، وبهذا أمكنهم أن يحللوها ويميزوها ببعض الخصائص. ولا نستطيع في العصر الحاضر بوجه خاص أن ننكر ما للمنفعة العامة واعتبارها من أثر في الحياة الاجتماعية، ولكن رد الحقوق كلها إليها يتنافى مع الواقع، فهناك حقوق عمرت طويلاً ودان الناس بها مع مخالفتها الصريحة لها. على أن النظم الاجتماعية لا تخضع لموازنة منظمة بين المنافع المختلفة، وفكرة المنفعة نفسها غامضة