. . . ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحس الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان؛ فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدثه، وخنقته العبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقري ينشر على عينيه ماضيه ويذكره أمانيه. . .
وقالت له نفسه: هذا سبيلك فامض فيه على هدىً وبصيرة، وانظر ماذا أعددت لغد؟
وقال لنفسه: وهل ترين الغد يا نفس إلا صورة من أمس الذي كان؟ وهل ترينني في غد غير من أنا اليوم وغير من كنت في الماضي؟. . .
لقد تجاوز الثلاثين ولم يزل حيث كان يوم بدأ؛ فماذا يكون غير الذي كان؟
وأوى إلى فراشه وأطفأ المصباح، ليقضي ما بقي من الليل يراوح بين جنبيه في فراشه الوحدة لا يهدأ ولا يستقر!
كان شاعراً بروحه وفطرته قبل أن يكون شاعراً له لسان وبيان: نظر إلى الناس في دنياه فاستوعبهم بنظرة، ثم عاد ينظر إلى نفسه فلم يعرف أين هو من نفسه وأين هو من الناس؛ وشعر بالوحدة منذ شعر أنه يعيش في جماعة. وكان له خيال وفي نفسه أمل؛ فتوزعته دنياه ودنيا الناس؛ فلا هو عاش في دنيا الناس واحداً منهم ولا هو عاش في دنياه وحده!
وألحت عليه ضرورات الحياة، فأبت عليه فطرة الشاعر أن يلتمس بعض وسائل الناس؛ فعاش من ضروراته وفطرته بين قوتين تتجاذبانه، لا سبيل إلى الخلاص منهما معاً إلا أن يعيش روحاً بلا جسد أو جسداً بلا روح؛ وهيهات!
وفكر فيما خلق الله وفكر في نفسه؛ فكأن في كل ما يراه لساناً يحدثه، وفي كل ما يسمعه معنى يهتف به؛ وكأن في كل منظور حقيقة غير منظورة لا تتكشف إلا لعينيه ولا يسمع نجواها أحد غيره؛ فإن وراء الغمام طيوفاً تتخايل له في شكول وألوان، وإن في لمعان البرق ومضات من الإلهام، وإن في الصمت لكلاماً أبلغ من الكلام، وإن بين السماء والأرض لعوالم غير منظورة تفضي إليه بأسرارها!
وتكشفت له الدنيا ونضت أستارها؛ فألهمته أن يغني. . .
وفاض ما في جنانه على لسانه سحراً من النغم يعبر عن أخفى خفايا النفس وأعمق أسرار الحياة؛ ولكن ألحانه القدسية قد تلاشت أصداؤها في صخب الحياة وضجة الأحياء؛ فلم