وما هو إلا إحساس زائد على إحساس الناس يرى مالا يرى ذو عين ويسمع ما لا سمع ذو أذن؛ وما هو إلا وحي يوحي من وراء الغيب إلى إنسان تكون فيه زيادة على الإنسانية؛ وما هو إلا إدراك كامل يكشف عن مظاهر الجمال في الكون ويهدي إلى الحق والخير
. . . أفتراك يا صاحبي قد بلغت رسالة الشعر حين حسبت أنك قد فرغت من دنياك، أم أنت. . .؟
وأطرق الشاعر برهة يفكر ثم نهض لأمره. . .
بلى، إن عليه رسالة يؤديها وواجباً ينهض له؛ فلا عليه من الناس حتى يبلغ، فإذا انتهى من أمره فإن نفسه له خالصة يمضي بها حيث يريد
وأمات في دخيلته دواعي النفس ونوازع الهوى ومضى لغايته. . .
وعاد يغني. . . غير آمل ولا خائف، وما به من شيء ضجر ولا ملالة؛ وأنس وسمت روحه في آفاقها إلى ظل عرش الله، حين قمع شهوات نفسه ونوازع هواه وآثر أن يكون نوراً يضيء للناس وهو يشتعل؛ فلقيت أغانيه من يسمع فيعي!
وأفاق الناس على لحن علويٍ ساحر ينشده شاعر وهب نفسه للدعوة إلى الحق والفضيلة والجمال؛ ونظروا، فإذا هو هو، ولكنه صار شخصاً غير من كان، لا تتصباه المنى ولا يعبث به هواه، وليس له في الحياة إلا هدف واحد يسعى إليه. . .
وجاءه المجد حين لا حاجة إليه. . .
وأشارت إليه من النافذة بنان مخضوبة وتقول: إنه لهَو! ولكنه لم ير، ولكنه لم يسمع. . .
وسعى ساعيها إليه يسأله: أئنك لأنت. . .؟
قال: نعم، قد كان ذلك يوماً!
وعلى باب الكوخ المنفرد على حدود العمران، جلس الشاعر على الرمل مرتفقاً إلى صخرة ناتئة، يسرح بصره في الفضاء الممتد إلى ما لا يبلغ النظر، وفي نفسه أنس، وفي قلبه هدوء ورضاً واطمئنان، وعلى لسانه تسبيح وعبادة!
لقد كان في مجلسه ذلك بحيث لا تراه عين ولا تسمعه أذن، ولكنه لم يكن وحده، لأن الله معهّ!
واستيقظ الشاعر بعد غفوة، وابتسم. . .