ففيم الذكرى؟ وفيم القصائد والخطب؟ وفيم الفصول المتناسقة والبحوث المتلاصقة؟ وفيم الكلام عن رسول الله، وأعتقد أن لو بعث رسول الله بعثاً ثانياً للقي من تخاذل هذا العالم أضعاف ما لقي من عناد العالم الأول. كان يجد عالماً مملوءاً بالكيد والأنانية والخداع والرياء - رياء في الدين ورياء في الدنيا، وبيع لجانب الله بالثمن الخسيس من جاه زائف ودنيا زائلة
أرأيت كيف بعث محمد رسول الله عربياً، وكيف قامت رسالته على سواعد العرب؟
لم يكن العرب في شيء من عظمة الدولة، ولا نظام الجماعة، ولا سمو الفكرة، ولا علو الحياة
ولكنهم كانوا في الذروة العليا من يقظة الروح وقوة الروح
وبهذا الروح اليقظ القوي كانوا يعافون الضيم ويأبون الهوان، ويؤثرون النار على العار. وكان الرجل يقول الكلمة فيرتهنها بروحه وأرواح ولده وأهله وعشيرته. وكانوا يشبون الحرب لكلمة جارحة تصيب أدناهم، وقد يصمدون لها أربعين عاما
وكان هذا الروح اليقظ أو هذا الأتون المشتعل في حاجة إلى من يوجهه ويهديه الطريق القويم
وبهذا التوجيه تمت المعجزة التي لم تشابهها معجزة في الوجود فأخرج رسول الله من أبناء الصحراء الغارقين في الدماء، الخابطين في الجهالة الجهلاء، أعلام العلم، وأقطاب الحكمة، وأئمة السياسة، وأبطال الحرب، وكواكب الهداية، وهؤلاء الذين كافحوا في نطاق فارس والروم، ملكوا فارس والروم، وما وراء فارس والروم في طرفة عين
ولعل أروع حادث تمثلت فيه يقظة الروح وقوته وسطوعه بنور الإيمان حادث الهجرة. وما ظنك بهذا الرسول الأمين، وهو في غار نشر الموت ظله عليه، وأطل برأسه على من فيه، فالسيوف الطائشة الظامئة تترصده، والوحشة والظلمات والهوام القاتلة تطبق عليه - ما ظنك بهذا الرسول الكريم وهو في تلك الحال يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا؟!!
ثلاثة أيام تتقطع في كل ساعة من ساعاتها نياط القلوب ورسول الله أثبت قلباً من ذلك الجبل الذي يضم ذلك الغار
وهذه الأيام الثلاثة تتمم ثلاثة عشر عاماً أقام بها محمد صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مكة