الغربان وهن يتراوحن على النار ضربا بأجنحتهن حتى تضطرم في الحطب. . . تلك أجنحة ملائكة. . . ملائكة الرحمة والانتقام. . .
ويعجبني في هذه القصة حكاية الصفرد الذي طالت غيبته عن مكانه فجاءت أرنب فسكنته فلما عاد الصفرد تنازعا وقررا أن يحتكما إلى سنور متعبد بساحل البحر (يصوم النهار ويقوم الليل كله. . .) ما كادا يسألانه أن يقضي بينهما ويقصان عليه قصتهما حتى قال:
(قد بلغني الكبر وثقلت أذناي فادنوا منى فأسمعاني ما تقولان) فدنوا منه وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم. فقال:
(قد فهمت ما قلتما وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما فأنا آمركما بتقوى الله وألا تطلبا إلا الحق فإن طالب الحق هو الذي يفلج وإن قضي عليه. . .) قال صاحب كليلة ودمنة:
(ثم إن السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه حتى أنسا إليه وأقبلا عليه ودنوا منه ثم وثب عليهما فقتلهما)
تلك عاقبة المتنازعين الذين يحتكمون إلى القوي فيخدعهما برياء قوته وجبروته ناسين (أن العاقل لا يغتر بسكون الحقد إذا سكن. فإنما مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركا مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطبا فليس ينفك الحقد متطلعا إلى العلل كما تبتغي النار الحطب فإذا وجد علة استعر استعار النار)(باب الملك والطائر فنزة)
أنظر إلى كلمة (المكنون) التي يصف بها الجمر وكلمة (متطلعاَ) التي يصف بها الحقد وكلمة (تبتغي) في قوله (كما تبتغي النار الحطب)
هل رأيت أبلغ منها في مثل هذه المواطن؟
ثم أنظر إلى قوله في الحقد:
(فإذا وجد علة استعر استعار النار) تر من جمال التعبير ما يرقص له البيان. فإن الكلام كان يمشي وئيدا ثم اندفع كالنار في الجملة الأخيرة، وكذلك كان الشأن في قصة المطوقة:
(فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت أنا خليلتك المطوقة، فأقبل إليها الجرذ يسعى) فإن هذه الكلمات القصيرة المتتابعة (فأقبل، إليها، الجرذ، يسعى) تنم عن الحركة السريعة المطمئنة وتؤدي المعنى خير أداء، وإن من البيان لسحرا