الصبر؛ قال عروة: أما تقلع أيها الشيخ عن باطلك، انصرفوا يرحمكم الله، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، ولا والله ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها فاحتمل عني ألمها. أقبل يا أبا الحكم، وخذ فيما جئت له (ربَّنا إننا سَمعْنا مُنادِياً يُنادي للإيمان أنْ آمِنوا بربِّكم فآمنا، رَبنا فاغفِرْ لنا ذُنوبَنا وكفِّرْ عنا سيئاتنا وتوفَّنا مع الأبرار. ربَّنا وآتنا ما وَعدْتَنا على رُسلِكَ ولا تخزنا يومَ القيامةِ إنك لا تخلفُ الميعاد)
فرأيت أبا الحكم وقد برق وجهه وتوقد كأنما أسلم بعد كفر، ثم نشر درجا كان في يده وأخرج منشاراً دقيقاً طويلاً صقيلاً يضحك فيه الشعاع ووضع الطست ومد أبو عبد الله رجله على الطست وهو يقول: باسم الله والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا). تقدم يا أبا الحكم فقد احتسبتها لله
فما بقي والله أحد في المجلس إلا استدار ودفن وجهه في كفيه، وبكى القوم فعلا نشيجهم، وإن عروة لساكن قار ينظر إلى ما يراد به، وكأنما ملك قد جاء إلى الأرض يستقبل آلامها بروح من السماء. ووضع أبو الحكم منشاره في اللحم إلى العظم، وإن عروة لصائم يومه ذاك، فما تضور وجهه ولا تقبض، والمنشار يأكل في عظمه الحي، وما يزيد على أن يهلل ويكبر ويسبح الله، وكأن الدار والله قد أضاء جوها كأنه شعاع ينسكب من تهليله وتكبيره؛ ودخل رجال يحملون مغارف من حديد يفور منها ريح الزيت وقد غلى فيها على النار، ودنوا فما هو إلا أن فرغ أبو الحكم وقد فار الدم منها وتفجر مثل الينبوع، فأخذها أبو الحكم يغمسها في الزيت فيسمع نشيشها فيه حتى حسم الدم. وإذا عروة قد غشي عليه، وإذا وجهه قد صفر من الدم، وقد مجد فنضح وجهه بالعرق، ولكنه بقي مشرقا نيرا يرف كأنه عرارة تحت الندى. قال أبو الحكم: ما رأيت كاليوم يا أمير المؤمنين إنه الرجل، وإنها الحقيقة المؤمنة، وإن إيمانه ليحوطه ويثبته ويسكنه وينفض عنه الجزع، ثم التفت إلى عروة يقول: جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله، لأنت والله تمثال الصبر في إهاب رجل
وما لبثنا، حتى إذا أفاق أبو عبد الله جلس يقول: لا إله إلا الله والحمد لله، ويمسح عن وجهه النوم والعرق بكفيه، وينظر فيرى قدمه في يد رجل يهم أن يخرج بها فيناديه: على رسلك أيها الرجل، أرني ما تحمل؛ فيأخذ قدمه في يده فيرنو إليها وقد سكن وحرك شفتيه،