في شيء من دواعي الحضارة التي يشهد أو يترامى إليه أمرها. . . الحق أنه - مع هذا - حديد الفطنة، سليم الطبع، مستقيم الفطرة، فلما جاءه الإسلام، وهو دين الفطرة، أذكى مواهبه، وحرر فكره، وأجلى ما كان يرين على قلبه؛ فإذا إنسان كفيء أي كفيء لأسمى النظر وعلاج جلى العظيمات في الحياة، وكذلك يمضي طلقا إلى ابتغاء المجد الحق من كل سبيل!. . .
ولقد كان من المتعين على مفكِّري العرب وقد دخلوا في الإسلام، أن يكون ابلغ سعيهم، وأول ما تتقلب فيه أذهانهم، هو هذا الدين طلباً لحفظ أصوله وتفصيل أحكامه. فجد منهم من جد في جمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بطريق الرواية عن الثقات من التابعين أو تابعيهم، ثم عن الصحابة راوياً بعد راو إلى من سمع منهم بأذنه أو رأى بعينه (ففعل النبي (ص) وإشارته كذلك من السنة)
ولقد أفنى جامعوا الحديث أعمارهم في شدة التحري والتحقيق والتثبت والتأكيد، للتمييز بين صحاح الأحاديث وموضوعاتها. بل للتمييز بين الصحاح، وتبين حظ كل منها من القوة طوعا لحظ رواتها من الثقة والدراية. ثم كان من أثر هذا أن نشأ علم جديد، هو علم (مصطلح الحديث) ولعله كان من الخير أن يدعى علم (نقد الحديث)
وفي الوقت نفسه اجتهد آخرون في استنباط الأحكام الشرعية من هذه الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، مهتدين جميعا بسلامة الفطرة، وحدة الفطنة، وصحة التفكير، ودقة الإحساس، حتى لقد ارتجلوا - في هذا الباب - قواعد وقضايا تخلب باختصارها ووضوحها ودقتها أبرع المشرعين. ولأسق طائفة يسيرة منها على جهة التمثيل: الضرورة تقدر بقدرها - الأصل بقاء ما كان على ما كان - إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل - ما جاء على أصله لا يسأل عن علته - لا اجتهاد مع النص - الاعتراف حجة قاصرة - اليد دليل الملك - المعروف عرفا كالمشروط شرطا - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. . . الخ
ولعمري لم يكن كل هذا الإبداع والابتكار أثراً لدرس مدرس أو تقليب للفكر في كتاب مكتوب، إن هو كما قلنا من فضل سلامة الفطر وحدة الذكاء، وصحة التفكير
وإذا كان علماء العرب قد نقلوا بعد ذلك علم المنطق إلى لغتهم عن اليونانية فإنهم سرعان