ما أجالوا في قضاياه هذه الأذهان الحادة وأراقوا عليها تلك الأفكار الخصبة، فابتكروا ما ابتكروا، واستحدثوا ما شاء الله أن يستحدثوا، طلباً لوفاء هذا العلم على الغاية من الهداية إلى صحة التفكير، وابتغاء النتائج الحق من صحاح المقدمات.
ثم لم يكفهم هذا، فلقد نقلوا عن اليونانية أيضاً علم (آداب البحث والمناظرة)، وغاية هذا العلم وسائل المجادلة بين المتجادلين، وإلزام كل من الطرفين حده في الخصام، وبيان الطرق للأدلاء بحجته، أو إدحاض حجة خصمه. وكذلك تضحي المناظرة مجدية منتجة، تظهر الحق على الباطل بقيام الحجة الواضحة غير مضيعة بين سفسطة ومهاترة، أو نقل لموضوع النزاع. على أن العرب كذلك طبعوه بطابعهم، وأفاضوا عليه من سابغ تفكيرهم، ووصلوه بفنونهم، وأجروا فيه الأمثلة والشواهد مما يعرض لما يعالجون من العلوم
أما وقد عرضنا للقضايا المسلمة وللمنطق ولآداب البحث والمناظرة فقد حق علينا أن نقف وقفة قصيرة لعلنا نرفه بها عن القارئ بعض الترفيه
لا غرو عليّ إذا زعمت أن تسعين في المائة، إن لم أقل تسعة وتسعين في المائة، من المناقشات والمجادلات التي تدور بيننا، نحن المصريين، سواء أكانت باللسان في المجالس الخاصة، أم بالقلم في الصحف السيارة، لا يمكن ان تنتهي بالتسليم من أحد المتحاورين. ذلك بأننا، حتى الكثير من متعلمينا، قل أن يعنوا في جدلهم بترتيب المقدمات المنطقية الترتيب الذي يفضي بها، في صحيح القياس إلى النتائج الصحيحة. ولقد يدفعنا الحفاظ للنفس، والرغبة في الفلج والخصم أن ننكر القضايا المسلمة. أما نقل موضوع النزاع، إذا سطت بنا حجة الخصم، فهذا ما يقع عندنا بغير حساب!
ودعنا الآن من المجادلات العلمية أو الفنية، وخذ بنا في ألوان الحوار التي تجري كل ساعة بين الأصدقاء وغير الأصدقاء:
يقول لك فلان: إن فلانا صنع كيت وكيت مما يتعاظمك ويروعك لضخامته أو لتعذر أسبابه، فإذا باديته ولو بالشك فيما يزعم ابتدرك بقوله:(دليه لأ؟) كأن الأصل أن تضاف إلى الناس الأفعال أو الأقوال، وعلى المنكر أن يقيم هو الدليل على العكس، أي العدم أو استحالة الوقوع، ناسين أبسط القضايا وأوضحها:(البينة على من ادعى)!
ويقول لك آخر: إن فلانا يرتكب كذا وكذا من المؤثمات؛ فإذا أنكرت منه هذا القول قال: