لأن الوصول فعلاً للغايات رهن بإرادة الله وحده. هذه فلسفة لها جلالها وبساطتها وجمالها، ولكن أجمل منها أن أصحابها أخذوا أنفسهم بها. هذا أحدهم وهو هِلفيدْ يُوسْ بْرسْكِسْ كان عضوا بمجلس الشيوخ بروما فطلب منه الإمبراطور ذات يوم أن يتأخر عن حضور جلسة خاصة، فكان بينهما هذا النقاش:
- لا أريد أن تذهب للمجلس
- لك أن تفصلني من العضوية، أما أنا فسأذهب ما دمت عضوا.
- إذا شهدت الجلسة فلا تبد رأيك
- لك ألا تطلب رأيي، وإذاً فلن أتكلم
- لكنه إذا حضرت الجلسة فسأضطر لسؤالك رأيك
- إذا فسأدلي بما أراه عدلاً
- ذلك معناه أنك تسعى للموت
- ومتى قلت لك إني من الخالدين! كلانا يفعل ما يتعلق به؛ لك أن تأمر بقتلي، ولي أن أصبر أو أجزع، وإذاً فسأتحمل الموت وآلامه صابراً
لله ما أنبل هذا المبدأ وما أروع تطبيقه! وما أسهل ما يكون المرء سعيداً إذا وثق بالله، واحترم ما فيه من رجولة فأرضى ضميره!
أما الأمة في مجموعها، فأرى أن علة تعثرها في خطواتها، وابتلاءها بكثير من المحن في الأنفس والأموال، وتفكك الروابط وانحلال الأواصر، وتفرق الزعماء - أرى أن ذلك كله يرجع إلى انسلاخنا عن الدين شيئا فشيئا، وإلى مبدأ الأثرة الذي أخذ منا بالزمام. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهن؛ ما ظهرت الفاحشة في قوم يعمل بها علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليهم عدوهم فاستنفدوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم، أعتقد أنه بالاحتكام لهذا الحديث المبين نجد