وكان الناس لا يعرفون الحقوق الطبيعية لإخوانهم في الإنسانية بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم ولغاتهم، فكانوا يجردون من ليس منهم من كل حق، ويسمحون لأنفسهم بقتلهم وسلبهم إن ظفروا بهم، فإن منّوا عليهم بالبقاء استعبدوهم وأذلوهم، فلما جاء الإسلام قرر أن بنى آدم مهما كانت مللهم وبيئاتهم ولهجاتهم حقوقاً طبيعية لا يجوز العدوان عليها بغير حق
وكان الناس لا يدرون كنه المساواة والعدل، فخضعوا لنظام الطبقات ذوات الامتيازات، فكان لرجال الدين والسراة والمحاربين حقوق ليست لغيرهم من أفراد الشعب، فكانوا يبهظون الدهماء بالتكاليف والإتاوات ويخلون أنفسهم منها. فلما جاء الإسلام حطم كل هذه الأوضاع، واعتبر الناس كلهم سواء أمام العدل:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)
فنحن إذا ذكرنا الهجرة، وهي دور من أدوار الكفاح الإسلامي في سبيل الإصلاح، ذكرنا كل هذه الانتقالات الأدبية التي لو اطلع عليها علماء الاجتماع لدهشوا، لأن كلا منها لم يتقرر في العالم المتمدن إلا بعد ثورات دموية، تلتها انقلابات عنيفة، وسبقتها تطورات عقلية وأدبية دامت قروناً طويلة؛ فإن كانت قد تولدت طفرة على يد خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، في مدى أقل من ربع قرن، وفي أبعد البيئات عن توليد أمثالها، فهي كبرى الآيات الإلهية، جاءت مناسبة لموطن الاقتناع من عقول أهل الزمان الأخير، فإنهم قد يرون القمر ينشق، أو الجبال تندك فلا يتأثرون، ويمضون يلتمسون لها عللاً طبيعية، ولكنهم لا يستطيعون أن يلتمسوا لهذه الانتقالات الفجائية الباهرة عللاً طبيعية، ولاسيما في بيئة لا تنتج واحدة منها. ولقد نسيت جميع الآيات التي صحبت الرسالات السابقة ومضت بمضي أيامها، إلا هذه الآية التي خص الله بها خاتم رسله، فستبقى ما بقي الإنسان ذا عقل يجيله في الأمور، وما بقي العلم يجلو كل مستور.