ثم اتفق له في صباه أن يشتغل بالتجارة لحساب زوجته خديجة، فكان مسؤولاً أمام قوة السوق التي لا يربح فيها غير أهل الجد والصدق من الذين يكتوون بنيران المعاملة مع أقطاب الكسب من السريان واليهود، وكانوا في ذلك العهد دهاقين الأخذ والعطاء
لم يحدثنا التاريخ عن تفاصيل الحياة التجارية التي عاناها الرسول، ولكنا نعرف أن التاريخ لم يكن يسمح بالسكوت عن ذلك الرسول لو أنه استطاع أن يأخذ عليه هفوة من الهفوات التي تجرح الأمانة والصدق، وهما فضيلتان لا يتحلى بهما التاجر إلا بعد جهاد شديد للشهوات والأهواء
وبفضل الكفاح الذي عاناه الرسول في ذلك العهد استطاع أن يدرس أخلاق العرب والسريان واليهود، وهي أمم كانت تقتتل في سبيل المنافع أبشع الاقتتال، واستطاع كذلك أن يتصل من قرب أو من بعد بالأخلاق الحبشية والمصرية والهندية والفارسية والرومانية واليونانية. ومن هذه التجارب تهيأت نفسه للإحساس بقيمة الجد والنضال
فإن قيل إن أكثر الأنبياء عانوا رعاية الغنم في طفولتهم ليتعودوا الصبر، فإنا نقول بأن محمداً عانى ما هو أشق من رعاية الغنم، عانى رعاية التجار وهو قوم يأكلون الجمر، ويلتهمون السم، ويدوسون على أشلاء الضمائر والنفوس
ومن المؤكد أن الرسول عرف الثورة على انحطاط الأخلاق بفضل ما شهد من مكاره الحياة التجارية لذلك العهد
ومن المؤكد أيضاً أن اشتغاله بالتجارة هيأ الفرصة للمعرفة العميقة بالأحوال السياسية والاقتصادية في ذلك الزمان
ويغلب على الظن أنه لم يكن يخلو بنفسه من وقت إلى وقت إلا ليجد الفرصة للسلامة من مكايد الناس، وقد عرفهم في ظروف لا يسلم من شرها غير من يعتصمون بالعزلة من حين إلى حين
وفي لحظة من لحظات الصفاء عرف محمد أن العناية الربانية أعدته لغرض أعظم من تثمير الأموال لزوجته الغالية، ولكن كيف يصارح قومه بذلك الغرض وهو في ظاهره من الكفر المُوبق في بلد قد استراح إلى الأوهام والأباطيل؟
لابد من نضال جديد، وفي ميدان لا تكون حراره من الصخور والجلاميد، وإنما تكون