هنا تظهر عظمة الرجل المؤمن بقيمته الذاتية، والذي يرى أن خصومه ليسوا إلا هباء في هباء، وإن تحصنوا بآطام السياسة والمال، وهما أقوى الحصون
وما الذي يخاف عليه بعد ما لقي؟
لابد من نضال، لابد من نضال
والتفت اليتيم الكهل فرأى أنه وحيد مضطهد لا يؤمن قومه برسالته، وإن كان لم يفقد عطف زوجته الغالية في ذلك الظرف العصيب
الله وحده هو الذخيرة الباقية للمضطهدين من أصحاب العقائد والمبادئ. الله وحده هو سناد المكروبين، وغياث الملهوفين. الله وحده هو الذي يحمي أهل الصدق والأمانة من عدوان الكاذبين والخائنين. الله وحده هو الذي يقدر على مواساة المكروب المحزون، وهو وحده الذي يبعث الشجاعة في صدر اليائس من انتصار الحق
الله وحده هو الذي أوحى إلى اليتيم المضطهد أن يستبسل في سبيل الحق، ليرى انتصار الحق على القوة بعد حين
وتلفت محمد فلم ير لرسالته من ظهير أو معين غير القوة الخفية التي تحدثه بأنه قد يصل إلى الفوز إن صبر على المكاره صبر أولى العزم من الرسل
هو إذن نبي، والنبوة توجب التضحية بجميع المنافع، وتفرض الاستهانة بأكاذيب المفترين على العرض والشرف، فلا بأس من أن يشيع كذباً أنه رجل غير شريف، وإن كان قومه عدوه من أقطاب الأمناء، يوم كان لا يجهر بالاعتراض على ما يرتطمون فيه من الزيغ والضلال
لابد من نضال، وهو في هذه اللحظة يقع في ميدان واحد هو الصبر على عدوان المكذبين، فإن انتصر محمد على هذا الكرب فلا كرب عليه بعد اليوم
وصرخ محمد بصوت ارتعدت له الجبال: يا معشر قريش، أنا رسول الله إليكم!
وما كاد يفوه بهذه الجملة حتى ظهرت لعينه وقلبه ألوف وملايين من الأفاعي والصلال هي وساوس المرتابين في دعوته السامية
ونظر فإذا هو طعام سائغ للسفهاء والأغبياء من أعداء الحق وأنصار البهتان وحدثته النفس بأن طلب السلامة أمر يوجبه العقل