للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القداسة مع أن بعضها ينظر للبعض الآخر باحتقار؟ إن معنى الإنسانية لم يتحقق حتى نعترف لها بالقداسة. إن الأبيض يدوس الأسود، والأحمر يحتقر الأصفر، والأصفر يحقد على الأبيض، وهكذا. . . فهي إلى الآن لم تعترف لنفسها بحق، ولم تعرف وضعيتها في الحياة، ولم تدر غايتها فيها، ولم تتفق على كلمة سواء فيما بينها. وهي لا تزال في بلبلة من آرائها ومعتقداتها ومذاهبها. وهي لا تزال تعيش بمنطق الأحراج والغابات، ولم تقلع بعد عن فجراتها وغدراتها وغفلاتها عن عالم السمو والعلم الذي ما خلقت إلا له.

وهذا التساؤل وهذا التشكك لا جواب له ولا شفاء منه إلا في (الكتاب) الذي طبع اسم الله على كل شيء وفي كل وقت حتى يرى الناس به الحق دائما ولا ينسوه. ولن يستقر كل شيء من عالم الآفاق وعالم الأنفس في مكانه إلا إذا طبع اسم الله عليه. وعبثا يطلب مصلح استقرار النفوس ما لم يكن هذا أداته الأولى. وهذه هي طريقة القرآن في كل آية: أن يذيلها بذكر جانب من صفات الله وشؤونه

إن منطق الإسلام يستمد من قوانين الفطرة الضامنة لكل ما أخرجته من الأحياء حق الحياة وأدواتها، ومن روح الحق الذي يملأ كل ذرة من ذرات الخليقة

إن محمداً اتصل ببارئ الفطرة وواضع قوانينها التي لا تتبدل وأتى بمنطقه ووضعه دائماً أمام أعين الإنسان، حتى لا ينسى أخلاق الله في ملابسته لجميع أعمال دنياه. . .

ألم يقل: (تخلقوا بأخلاق الله)؟ ما أعجب هذا القول! وما أعظم ربطه بين النفس الإنسانية والطبيعة ذات القوانين التي لا تضل ولا تخلف!

وخلافة الإنسان في الأرض هي أن يعمرها على أسلوب الله: أي أن يضمن الحياة لكل حي يستحقها ويقيم العدل الموزون بين العناصر، ويستعمل قدرته، ولا يعطلها بالجهل والمرض. . . ويخلق من طين الأرض وموادها البكر الميتة آلات يقلد بها صنعة الله، ويسيرها بعقله وذكائه كما يسير الله الأحياء بروحه وإلهامه. . . على شريطة ألا يخرجه ذلك عن نطاق الطبيعة فينسى أنه من أبنائها وأشيائها؛ ولكنه دائما يضل وينسى هذا، لأنه ذو اختيار وذكاء وشطحات تباعد بينه وبين أسلوب الطبيعة، وفتنته من هنا. . . فهو يخلق بذكائه جواً صناعياً حوله يجعله منفصلاً عن سير الحياة بما عداه من الأحياء، ويجعل بين عالمها وعالمه حاجزا!. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>