جوانبه كتلة نور لا يستطيع أن يحدق فيها. . . والنسيم يروح خفيفاً هيناً يحمل السلام إلى كل نفس والهدوء إلى كل قلب. . . وجماعات الصحابة تقوم لوضوئها، وتستعد لصلاتها، وتنعم بهذه الهداية الخالدة
في تلك الساعة سمع الناس جلجلة قيود، وأصوات أغلال؛ وأبصروا. . . فإذا شبح لا يبين. . . حتى إذا اقترب رأوا فيه (أبا جندل) يرسف في الحديد؛ وقد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب جواره الأمان، ويرجو السلام، ويبغي الحياة لله ورسوله. . . فيقبلون عليه بقلوبهم وأفئدتهم. . . وعيونهم تفيض من الدمع
ويدرك النبي الكريم كل شيء؛ وينتفض انتفاضة لا يحسها غير أبي بكر في جواره. فقد كان نفذت منه قوله:(هذا ما عاهد عليه رسول الله سهيل بن عمرو. . .) فماذا هو فاعل في أبي جندل؟
ويرى سهيل ابنه أبا جندل، فيقوم إليه (يضرب وجهه ويأخذ بتلبيبه) والمسكين ينظر إلى رسول الله وينادي: (أأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟. . .)
ويخفق قلب النبي الرحيم وتطرف عيناه ويغشيهما الدمع؛ ويغمض جفنيه يحبسه أن يتذارف، وتتراءى له في هذه الإغماضة الخفيفة أنوار (جبريل)، وتنتشر من أمامه صفحات المستقبل ويبرز له يوم الفتح وقد أقبل (سهيل) يطلب جوار ابنه ويحتمي به، ثم تعرض له صورة سهيل بعد ذاك (كثير البكاء، رقيقاً عند قراءة القرآن) وتظهر له الجنة في خاتمة هذا الطواف وأبو جندل وسهيل أبوه إلى جنبيه، قد خرجاً من الدنيا شهيدين فيسري عنه، وتخالط أحزانه ابتسامة حلوة، ويتمتم بكلمات صامتة، ويقول:
(يا أبا جندل. اصبر واحتسب. فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم)
ويخالط الجزع قلوب المسلمين، وتمتلكهم الروعة؛ ويداخلهم الهم لمصير أبي جندل. . . ويقف هذا الشاب يتفرس في الوجوه، وقد اطمأن إلى وعد رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى. . . وتراءت له أيامه القريبة الغر، وقد انفلت من الأسر، وانضوى تحت راية الجهاد. . . وتبرق في نفسه بارقات الأمل، وينصرف بعد أن يقبل يد النبي، ويدس رأسه