ويستدعي أمك يطلب إليها أن تسرج فرسه، وتجمع بعض متاعه، فهو مسافر غدا إلى النبي في ثنية المرار
وتنتصب الفتاة قبل أن تنتهي من كلماتها الأخيرة. . . ويتطلع إليها أبو جندل، فيرى وجهها من جديد على أنوار القمر الضئيلة التي اخترقت النافذة العتيقة، فيود لو أنها بقيت إلى جانبه تؤنس وحدته وتطرد وحشته. . . ولكن الليل مضى إلا أقله. . . وهذا غبش الفجر في طرف السماء، وما من شك في أن أباه سيبتدر الصباح، وسينهض مبكراً ليبلغ النبي قبل أن ترتفع الشمس؛ وقد يمر به ويفتقده قبل غدوه، فليحرص على ألا يرى أثر أخته عنده. . .
وتقترب الفتاة من أخيها. . . وتلامس شفتاه جبينها الوضاء ويطبع عليه قبلته كأنما يشكر لها فيها هذا الحديث الشائق، وهذه البشرى الحلوة. . . ويهم بتركها لولا أن عارضاً مر بخاطره. . . لم لا يهرب من الأسر؟. . . إن أخته لتستطيع أن تعينه بما لها من حيلة، وإن فيه لبقية من عزم لم تأت عليها هذه القيود، وإن في قلبه لإيماناً يدك الجبال. . . وإن كبده الحرى ليذيبها الحنين إلى النبي والى الجهاد. . . وإن أباه ليسافر غداً؛ وستنزاح هذه الغمة الثقيلة التي تظلل سماءه فتفيض فيها الكآبة والعبوس
وتتضح هذه الفكرة في رأسه وتتكامل صورها وأجزاؤها. . إن النبي قريب من مكة، فليمض إليه وليسع نحوه ليجد في كنفه الراحة والإيمان والخلاص
ويهمس في أذن أخته هذه الكلمات. . . ويسألها في ضراعة ورجاء أن تعينه؛ فقد سئم هذه الحياة الصعبة وبرم بالقيد الغليظ، وإن الله لمنجيه. . . والنصر قريب فلن يلحق بها هي عذاب
وفي أصيل اليوم التالي كان النبي صلوات الله عليه في مجلسه مع سهيل بن عمرو، وبين يديه علي بن أبي طالب يكتب صلح الحديبية، وإلى جانبه أبو بكر وعمر وعبد الرحمن وسعد؛ وقد تناثرت في السماء قطع من السحاب الخفيف كأنها حمامات السلام البيضاء. . . وغشى الأفق لون وردي جميل من أثر الشمس المتضيفة، وكان يحس الناظر في جانب من