الذكرى التي عادت بالرجل إلى سني عمره الباكرة. وما لبثت أن عرفت أن المدينة التي كنت أسعى إليها، تبعد عن النزل بما يعادل ستة أميال. فاقترح الرجل أن انزل عنده تلك الليلة، وراح يغريني بما سوف أجده في حجراته من نظام وراحة ونظافة، قائلاً:
- إنه ليس بالفندق العادي. . . فنحن هنا لا نرتقب من الضيفان غير الرحالة الذين يدفعهم النصب إلى التماس كأس من الشراب. ولكن حديثك يطيب لي، حتى لقد ملت إليك، فأنت على الرحب والسعة
كان ينبغي لرحالة مثلي يجوب البلاد على قدميه حاملاً معه مالاً، أن يخشى من وراء دعوة كهذه شراً، أو أن يتوقع غيلة من أجل هذا المال الذي يحمله. بيد أنني لم أك بطبيعتي ممن يستسلمون للهواجس والريب، كما أنني لم أر في باولي العجوز، الشخص الذي يستطيع الإقدام على سرقة أو قتل. . .
ومع ذلك فقد سلبني نوم ليلة. . . وقتل راحة كنت أنشدها فما أن قبلت دعوته حتى اضطجع في مجلسه ونادى صائحاً:
- جيوفانا!
فأجابه صوت نسائي من داخل الدار، ظهرت على أثره امرأة رزح ظهرها تحت عبء السنين. فأمرها - والشمس ترسل شعاعها الأخير - أن تعد العشاء، وأن تهيئ الحجرة كما تملي واجبات الضيافة، فتلقت الأوامر صامتة، ثم كرت عائدة إلى الداخل، بينما تحولنا إلى حديثنا عن غاريبلدي نتابعه
فلما فرغنا من تناول العشاء، عدنا إلى مقعدنا خارج الدار ثانية، وراح الكهل يقص عليَّ قصته. . . قصة شبابه التي لم أسمع في حياتي مثلها، ولم أصغ لقصة من قبل أو. . . بعد، إصغائي لها فقد مضى يتكلم كما لو كان يفضي بقصة سواه، وقد لاح كما لو كان الزمن قد حوله إلى كائن يغاير كل مظهر إنساني، تتخلل حديثه حيوية المتفنن الذي يتفانى في عشق فنه، وحرارة الخطيب يحاول أن يأسر بفصاحته وبلاغته ألباب المستمعين. . .
قال: ولدت في بيروجيا، وهي غيرها اليوم، وكان والدي تاجر عاديات، يقوم متجره على ناحية الطريق التي تصل ميدان البابا برحبة واسعة تتراءى خلفها تلال (أومبريان)
ولقد يخيل إليك - لأول وهلة - أن الموقع كان رديئاً. بيد أن والدي لم يكن بالرجل الذي