مخلصاً صابراً لا يملّ. وإذا كان الكاتب كذلك فهو كاتب لا يزيف لك ولا يقبل الزيف، وهو يعطيك ولا يسألك، ويبذل لك ولا يمن عليك، ويعلمك ولا يدعي لك إنه أعلم منك. . . ذلك بأنه قد بلغ من العقل والفكر والصفاء والبيان حيث يعلم أنه ملك قارئه لا أن القارئ ملك له، وأنه مرشد لا مسيطر، وأنه أخوك الذي يناقلك الحديث وإن كان بمنزلة الأب
و (الزيات) - كما عرفته من كتابته - روح هادئة متكتمة مسترسلة، يكاد يختفي في نفسه حين يفكر كأنه فيلسوف من فلاسفة الصين: يمشي هادئاً، ويفكر ساكناً، ويحاسب نفسه ولكن على التسامح والرضا والاستسلام؛ فإذا أراد أن يقيد أحلامه وأفكاره وهواجسه كان هو الهادئ الساكن المتسامح، فإذا اشتد وحمس وأراد أن يتفجر، خيّل إليّ إنه عينٌ حَّمةٌ ترسل لواذعها سكْباً ساخناً حامياً كالماء إذا إلى ثم هدأ أول هدأة لا يضرب بعضه في بعض. ولذلك ترى نقده إذا نقد شديداً بالغاً، ولكنه رفيق غير عنيف، ولكنه على ذلك مما تخشى صواعقه. وهذه الروح التي وصفناها هي التي تجعل كل كلامه قطعاً مزينة ناضرة محكمة مقدرة الألوان لا يختلط شيء منها بشيء، ولا يجوز لون منها على لون. وهي التي تجعل كل لفظه مبنياً على الإيجاز دون الإطناب، وعلى مذهب الحكمة دون المذهب الكلامي؛ وإذا أردت أن تتبين كل ذلك حقيقة التبين فلا تتكلف أكثر من أن تقرأ إهداء كتابه. يقول لولده (رجاء) الذي احتسبه عند ربه في سنة١٩٣٦:
(إلى روحك اللطيفة العذبة - يا ولدي رجاء - أقدم هذا الكتاب، فلولاك ما أنشأت الرسالة، ولولا الرسالة ما أنشأت هذه الفصول)
فإن في هذه الكلمات القلائل لوعة مستكنة باقية إلى يومها هذا، ولكنها ساكنة راضية هادئة لا تثور ولا تتأجج، ولكنها تسري وتدب وتمشي في روحه الهوَينا الهوَينا
هذا سر أسلوبه. وأما أسلوبه وبيانه واقتداره على عربيّته وحسن تصريفه لألفاظه في وجوه أغراضه ومراميه، فالزيات - ولا أشك - هو بقية أصحاب الأقلام العربية التي لا تخلط ولا تتقَّمم من هنا وهنا - فأنت إذا نفذت إلى كل جملة من كلامه في هذا الكتاب لم تجد إلا عربية خالصة مطاوعة لينة، لا ينافر حرف منها حرفاً - على كثرة الأغراض التي رمى إليها واختلافها، وعلى ظن من لا يعلم أن العربية لا تطيع في التعبير عن الضرورات الحديثة التي قسرتنا عليها مدنية القرن العشرين من ميلاد المسيح