للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الصحيحة لمصاير الإنسانية كان النزاع بين الديانات، وكان الصراع بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، وتلك فتنٌ جوامح نشأت عنها آداب وفنون لا ينكرها إلا غافل أو جهول.

لما تلطفت وزارة المعارف العراقية فدعتني لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية في بغداد، سألت عن مبلغ بغداد من الحضارة فقيل لي إنها تشبه طنطا، فجزعت أشد الجزع، لأن طنطا يقلّ فيها الصراع بين المذاهب والآراء، وإن كانت عامرة بالقصور والمتنزهات، وهي البلد الوحيد الذي لا أبيت فيه حين أمضي إليه لمهمة رسمية ودخلت بغداد فرأيتها أقل من طنطا في الحضارة والعمران، ولو شئت لقلت إن أصغر شارع في طنطا أجمل من أكبر شارع في بغداد. . . وكذلك أحسست قسوة الوحشة حين دخلت عاصمة العراق، ولولا الخوف من غضب (العقيدة الأدبية) لرجعت في السيارة التي أقلتني إلى هناك

وبعد يومين اثنين رأيت أن بغداد البدوية غير طنطا الحضرية في طنطا شوارع عريضة وقصور شوامخ، ولكن سكانها لا يعرفون الصراع الجميل بين المذاهب والآراء، لأنها مدينة مصرية صميمة يقل فيها الأجانب، ويكثر فيها ائتلاف الأذواق، وهو باب من السكون والخمود

أما بغداد الجافية التي لا تعرف الحضارة في غير شارع واحد فهي مضطرب عريض لاختلاف المذاهب والمشارب والأذواق، فيها عصبيات عربية وفارسية وهندية وكرديه ويهودية، وفيها جاليات فرنسية وإنجليزية وأمريكية، وفيها على جفوتها بقايا من الحضارات المختلفة، وفيها ألف مجال ومجال لاضطرام الأذواق والأحاسيس

وكذلك ألقيت نفسي في ضرام بغداد فكتبت في نحو تسعة أشهر ألوفاً من الصفحات نشرتُ منها ما نشرت وطويت ما طويت

في طنطا الحضرية يعيش شعبٌ واحد، وفي بغداد البدوية تعيش شعوب، ومن الاختلاف والائتلاف يحيا الأدب الرفيع

ليس في بغداد كلها قصر يشبه أصغر قصر من قصور حاضرة (الغربية) ولكن بغداد فيها جرائد ومجلات وأندية لا تعرفها حاضرة (الغربية) لأن الهدوء في طنطا عجز عما قدر عليه القلق في بغداد. وكذلك فهمت أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية وفي

<<  <  ج:
ص:  >  >>