للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي. وهو موقف عجيب حقاً، فالأستاذ الصعيدي ينظر إلى المؤرخين والأدباء الذين تعرضوا لسيرة أبي العباس وأخباره نظرة واحدة، ويضعهم في مرتبة واحدة من حيث العدالة والضبط والحجية، لا فرق عنده بين متقدم ومتأخر، وبين متخصص في الرواية التاريخية وغير متخصص فيها، وبين من يتتبع الرواية بإسنادها إلى من شهد الواقعة ومن يتسقط الأخبار من هنا وهنا. وما هكذا كان السلف الصالح من علماء المسلمين. فإنهم كانوا يزنون الرجال والأخبار بأدق موازين النقد؛ وما علم الحديث منا ببعيد، فقد رجحوا كتب البخاري على غيره من كتب الحديث، لأنه أقل من غيره رجالاً تُكلم فيهم بالضعف، وأقل من غيره أحاديث شاذة أو معلولة. فإذا جئنا إلى التاريخ، وجدناهم يقولون: إن أصح التواريخ تاريخ ابن جرير، وإن كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري لم يؤلف مثله في موضوعه، وإن طبقات ابن سعد أقدم وأعظم كتاب في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين. وقالوا في ابن قتيبة إنه قليل الرواية

ولقد أدى هذا الموقف الأستاذ الصعيدي إلى نتيجة هي عجب من العجب، فالمصادر التي لقبت أبا العباس بالسفاح صادقة لأن، أبا العباس عنده سفاح، والمصادر التي لقبت عبد الله بن علي بنفس اللقب صادقة لأنه كان سفاحاً. والمصادر التي سكتت عن تلقيب هذا أو ذاك باللقب المذكور لا يصح الطعن بها في رواية المصادر التي ذكرت هذا اللقب (لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ) وهي قاعدة مشهورة عند الأزهريين ويقول الأستاذ إنه ليمكن أن أجادل فيها. وأنا لا أجادل في القاعدة ولكن أجادل في تطبيقها فليس هذا محل تطبيقها، والمسألة ليست مسألة حفظ وتضييع، وإنما هي مسألة تخليط وعدم تخليط، فهل يسلم الأستاذ بقول من يقول (إن من خلط حجة علي من لم يخلط)؟

أما نحن فنظرنا إلى المصادر نظرة نقد وتقدير كما فعل الأقدمون من علماء الحديث؛ فوجدنا أن أقدمها وأوثقها وأشدها تخصصاً بالرواية التاريخية لا تلقب أبا العباس بالسفاح، وتصور هذا الخليفة في الصورة التي أجملناها غير مرة، ووجدنا المصادر التي شوهت صورة هذا الخليفة ولقبته بالسفاح ونسبت إليه الفضائع هي من وضع رجال ليسوا متخصصين في الرواية التاريخية الجدية ولا معروفين بالعدالة والضبط الذين يعرف بهما أصحاب الرواية التاريخية القديمة كابن سعد والبلاذري والطبري وغيرهم. هذا هو موقفنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>