- ولست وحدك هكذا، وإنما أغلب أهل هذا العصر هكذا وأكثرهم تردياً فيه أهل المدن، وأكثر أهل المدن تردياً فيه وانطماساً أولئك الذين يتعلمون في المدارس، وأكثر المتعلمين تخبطاً فيه وانغماساً أبناء معاهد الفن في مصر، فهؤلاء يستعرضون صوراً مختلفة للحس، ولكنهم لا يقفون عند واحدة منها وقفة التأمل والتذوق، وإنما هم يحصونها عداً ويحسبون هذا الإحصاء علماً، فيخرجون به إلى الدنيا ونفوسهم مشوشة مختلطة حائرة. . . ومع هذا كله، فمغرورة متكبرة. . .
- وهذا فيمصر وحدها أو في العالم كله؟
- أظنه في مصر وحدها. . . فهم في الغرب إذا كفروا لم يكفروا حتى يؤمنوا بكفرهم، ونحن هنا ننتظر حتى يكفروا فنجري ورائهم، فإذا آمنوا آمنا، فإذا كفروا كفرنا ونفوسنا فارغة لا يعمرها إيمان ولا كفر. . .
- وهل يعمر الكفر النفوس؟. . .
- إذا كان كفراً خالصاً لوجه الحق كذلك الكفر الذي شاع في أوربا في القرن الماضي وفي سوابقه، إذ تفتحت عيون عشاق الحق هناك على أباطيل رأوا أهل الدين يتمسكون بها، فقالوا لهم تعالوا ندع هذه الأباطيل ونحرر أنفسنا ونفكر بعقولنا، فقال لهم أهل الدين، ليس لنا عقول إذ ردتنا العقول عما وجدنا عليه آباءنا، وإنه لدين آمنا به ولن نحول عنه، فقالوا لأهل ذلك الدين: فليكن إذن لكم دينكم وليكن لنا ديننا، ثم قالوا للناس جميعاً: إنما نحن نسعى إلى الحق بعلومنا وعقولنا، وليس لنا شأن بأخصامنا، ولسنا ندعو الناس إلى جنة أو نار، فالجنة والنار حديثهم، وإنما نحن نقول إن عباد الشمس الأزرق يحمر إذا أضيف إلى حمض، كما نقول إن الهيدروجين أخف من الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، وإن الأرض مجذوبة إلى الشمس، وإن الشمس تسبح في الفضاء وإن وإن. . . وليستمع لنا من يريد وليستمع لهم أيضا، فإذا شاء أن يودع عقله بين أيديهم فليستثن عن عقله وهو عندهم حتى إذا جاءنا استحضره. . . هذه حال حدثت في أوربا، ولأنها حدثت في أوربا فقد أحدثنا مثلها قولاً في كلية الآداب عندنا وقلنا إن العلم شئ وإن الدين شئ، مع أن ديننا هو العلم نفسه، وهو العقل نفسه، ولم يحدث أن احتضن يوماً خرافة، أو أظل باطلاً. . . وإن كان بعض أصحاب الغرض قد رشقوا في حواشيه بعض ما ينافيه، مما هو ظاهر للعين زيفه