وانتقل توفيق من جو إلى جو: من حي الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء؛ إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال. . . ورأى، وسمع، وعرف. . .
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كان إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعاً إلى ذراع. . .
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد؛ وكأنما كان في حلم فاستيقظ؛ فلم يأو إلى فراشه إلا بعد ما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه - ثم أغمض عينيه ونام. . .
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف!. . . . . .
وكان في طريقه إلى صاحبته ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة؛ ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لوناً جديداً من ألوان الحب!
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى، وكتب. . .
وخلع توفيق وقاره وألقى بنفسه في تيار الحياة؛ وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صوراً وذكريات. . .
وتجرَّد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان؛ ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه؛ فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية التي تجول في البحار بين سواحل القارات الخمس؛ وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده (حقيبة الذكريات) يثبت فيها فصلاً من مغامراته كلما هبط ميناء من الموانئ. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء. . .
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء تّرسي فيه السفينة فيكتب ويصف. . .!
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع!
لقد كان يخلع حبه دائماً في الظلام قبل أن يفارق الغرفةَ المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه؛ فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة بسط أوراقه وكتب؛ وتنتهي قصة حب؛ فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة!