تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلاً بعينه وأناساً بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذناً لمن شاء أن يفعل ما شاء
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاماً هو أجمع لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي:(السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت (. . . ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان) ومن قوله: (الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه. وفي بعض الشر خيار) ومن قوله: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور: نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء
هذا الإلهام النافذ السديد في تدبير المصالح العامة، وعلاج شئون الجماعات، هو الذي أوحى إلى الرسول الأمي قبل كشف الجراثيم، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول، وقبل العصر الحديث بعشرات القرون، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد، حيث قال:(إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)
فتلك وصية من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد. إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها
على أن الإدارة العليا إنما تتجلى في تدبير الشؤون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع، فليست الإدارة كلها نصوصاً وقواعد يجرى الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشؤون على نسق واحد، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك
وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام.