وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وأسبانيا والبرتغال.
وتجاور التركية والفارسية، وإن لم يؤد إلى تغلب إحداهما على الأخرى، قد ترك في التركية آثاراً واضحة من الفارسية، وبخاصة في المفردات، وترك كذلك في الفارسية بعض آثار من التركية
وتجاور الفارسية والعراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد نقل إلى كل منهما كثيراً من آثار الأخرى في المفردات والقواعد والأساليب
ومجاورة الجرمانية واللاتينية في العصور القديمة، وإن لم يؤد إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى، قد نقل إلى أولاهما كثيراً من مفردات الثانية، وترك في الثانية بعض آثار من الأولى
وقصارى القول: متى اجتمع لغتان في بلد واحد أو تجاورا لا مناص من تأثير كل منهما بالأخرى؛ سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكلتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف في مبلغه ومنهجه ونواحي ظهوره ونتائجه في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية.
فإذا كان الغلب كتب لإحداهما نراها تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كثرت كميته؛ فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطاً، بدون أن تدع له مجالاً للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي. على حين أن المغلوبة لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الغالبة من مفردات وقواعد وأساليب، ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها، وتفنى أنسجتها الأصلية شيئاً فشيئاً حتى تزول: كما كان شأن الإنجليزية مع النورماندية، والعربية مع القبطية
وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه، وتفيض عليه من حيويتها، وتقاوم آثاره الهادمة. فتبقى كل منهما متميزة الشخصية، موفورة القوى سليمة البناء: كما كان شأن الفارسية مع العربية.