وما كان يأوي حسين إلى ذلك الكوخ إلا حين كان يضيق بهمه، وتثقل على نفسه الحياة
وانعطف به مهره عند نهاية قناة طويلة تجري وسط مزارع أسرته، فلم يكد يتجه اتجاهه الجديد، حتى وقعت عيناه خلف شجرة كبيرة على بعض أخبية للبدو لم يرها من قبل هناك، ينبعث الدخان من كوانينها، وتنبح الكلاب المارين بها. ونظر، فإذا هو يرى بأحد هذه الأخبية فتاة مضطجعة، عجب لأول وهلة كيف يتأتى وجود مثلها في خباء من الشعر، وهي لولا ملابسها البدوية، وحليها البدوية، لظنها الرائي إحدى غانيات القصور، ففي وجهها الرائع القسمات، وفي بدنها البض، مخايل النعيم والترف، وفي سمتها معاني الكبرياء والأنفة، هذا إلى بياض بشرتها على نحو لا يكون إلا في الناعمات البيض من ربات الجمال. . .
ورشقته الفتاة بنظرة من عينيها الدعجاوين الرائعتين، نظرة فهم بفطرته منها كثيراً من المعاني: ففيها الإغراء والدلال، وفيها الإعجاب به وبمهره الجميل، وفيها الأنفة وعدم المبالاة، وفيها الإقرار بما يبدو عليه من جاه، وفيها الإيحاء إليه بجاهها هي وإن كان من نوع آخر غير جاهه، نوع كم ذل له كل جاه، وكم دانت له من جباه. . . وسار، وقد انطبعت في مخيلته صورة هذه البدوية الجميلة، ورآها بين من أحطن بها كأنها وردة رائعة في بقعة من الشوك. . . وحدثته نفسه وهو من لا يهاب ولا يضطرب أن يرجع، فيجلس ساعة بين هذه الأخبية ليرى مبلغ كبرياء تلك الفتاة، وهو لم ير هناك رجلاً ولا فتى، ولن يضيره أن يحضر الرجال جميعاً، فهم يقيمون في ملكه، ولا يسعهم إلا الإذعان لسلطانه. . . ولكنه ما لبث أن رغب عن ذلك، ومضى في سبيله إلى منعزله. . .
وبلغ كوخه فترجل وأسرع إليه صبى من البدو المقيمين هناك فأخذ المهر إلى مربطه؛ وجلس حسين في الكوخ ينظر إلى الماء في الترعة الساكنة الهادئة ويمني نفسه بيوم هادئ؛ وطافت برأسه أول الأمر طيوف همه، ثم طاف بها خيال تلك البدوية الجميلة، وتمثلت له عيناها الجريئتان الساحرتان، فسرى عنه بعض ما به لحظة أسلمه بعدها إلى وجد عميق إذ تداعت إليه آلام حبه ولواعج قلبه. . . وأفاق من أحلامه على صوت ارتفع من قرب بالتحية. . . ونظر فإذا الشيخ مصطفى مقبل نحوه، وامتعض حسين ولكنه أخفى امتعاضه بابتسامة متكلفة قائلاً:(وعليكم السلام يا عم الشيخ مصطفى. من أين أنت قادم؟)