غير أنه يبقى بها، على الرغم من هذا كله، وجوه شبه قريبة أو بعيدة في أصول المفردات وبعض مظاهر القواعد العامة. وإليك مثلاً طوائف اللغات الهندية الأوربية، فعلى الرغم من استحكام ما بينها من حلقات الخلاف، فإن الأصل الأول قد ترك في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة وتشهد بتفرعها عن أرومة واحدة
ومن هذا يتبين أن اللغة لا تموت حتف أنفها. فما لم تصرعها لغة أخرى على الوجوه التي تقدم شرحها في المقالات السابقة، لا يتطرق إليها الفناء. وخلودها هذا يبدو في أحد مظهرين. فأحياناً تحتفظ بوحدتها، وذلك إذا ظلت حبيسة على منطقة ضيقة وفئة قليلة، وأحياناً تتشعب إلى لهجات ولغات، وذلك إذا انتشرت في مساحات شاسعة من الأرض وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس
ومن ثم يظهر كذلك خطأ من يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية (إسبرنتو يتحدث بها الناس من مختلفي الأمم والعصور. وذلك أن هذه اللغة الصناعية على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها، لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان. فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في أصولهم الشعبية وفي التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقتضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلابد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وقواعدها باختلاف العصور وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلاً حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالاً تاماً وتصبح غير مفهومة إلا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لا يمضي زمن قصير أو طويل حتى يتولد من هذا العلاج نفس المشكلة التي يحاولون القضاء عليها: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم. . .). (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين)