يفرض هذا المجتمع كثيراً من الفضائل، فهو كمجتمعات المشردين والمشبوهين من اليتامى والمساكين الذين ترينهم ملقَين في الشوارع. . .
- وهل فرغ إيليا أبو ماضي من حياته حقاً وتوفر على تأديب نفسه، فهو إذن قادر على أن يؤدب غيره؟ وإذا كان قد فرغ من حياته حقاً فمن أين يأكل. . . وكيف يعيش؟
- إنه يأكل كما تأكل الطير في السماء، ويعيش كما يعيش الحر الكريم؛ منذ سنوات وسنوات هبط مصر وأراد أن يستقر فيها، فاتخذ لنفسه محلاً يبيع فيه السجاير والدخان ووقع عليه أنطون الجميل بك فرآه يكتب شعراً في الدكان، فقرأ شعره فأعجبه فنشره في مجلة كان يصدرها، فقامت قيامة الأدباء والشعراء المصريين عليه فأوسعوه نقداً، وأوسعوه تجريحاً، وتناولوا ألفاظه ولغته وراحوا يناقشونه في هذه الفاء ما موقعها من الإعراب، وهذه النون لماذا هي مفتوحة وهي في الأصل مضمومة، وهذه الهمزة، لماذا قطعها وهي همزة وصل؟ وتكاثروا عليه، وكان في مصر إذ ذاك أمير للشعراء هو المرحوم أحمد شوقي بك، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول كلمة ينقذ بها إيليا من بين براثن هؤلاء الذين ينقدون الشعر بغير ما يصلح نقداً للشعر، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول لهؤلاء النقاد: إني أربأ بالشعر أن يعيبه هذا الذي تروون مما يعيب اللغة والعروض والنحو وسائر ما يحصل بالقراءة والدرس، وإني أرفع الشعر فوق هذا كله، فهو حديث النفس والنفس من الله وليس لله لسان مما ننطق به. كان شوقي بك رحمه الله يستطيع أن يقف من إيليا هذه الوقفة ولكنه - رحمه الله - كان مشغولاً بشعره هو وبنفسه هو، وبالملك العريض الذي أرسله فيه الزمن، فلم يشعر مطلقاً بالذي حدث لأبي ماضي، ولم يطق أبو ماضي صبراً على هؤلاء المهاجمين فشد رحاله إلى أمريكا، حيث يتكلم الناس بالإنجليزية، وحيث لا عرب إلا الباحثون عن الرزق، والخارجون من أوطانهم وأيديهم صفر، ثم استطاعوا هناك في أشد معامع الحياة ازدحاماً واصطراعاً أن يجمعوا المال وأن يعيشوا به كراماً، لا ذل يرهقهم إلا الغربة ولا مستعبد يزيحهم عن الأرض؛ وإنما لكل امرئ هناك ما سعى، ولقد سعى أبو ماضي فأنشأ هناك مجلة اسمها السمير ويقولون: إنه أنشأ متجراً للدخان والسجاير أيضاً؛ وراح بعد ذلك يتأمل الدنيا ويرنو إلى الآخرة، ويقيد على الورق ما يتكشف له من الحقائق، وما يلمحه من المبهمات، ويسجل على نفسه بلوغها وقصورها، وخيرها وشرها،