وأحست الفتاة بعد فترة، أنها قد غابت كثيراً عن أطفالها؛ فأصلحت شأنها وعادت إليهم؛ ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت. . .
. . . ودق الجرس، وقامت خديجة لتودّع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟
وأخرجت الرسالة من حقيبتها وأخذت تقرأ. . .
(عزيزتي خديجة!)
إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجودَه؛ بلى، وإنها إلى الساعةِ لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه؛ وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدّث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري. .!
وعادت تقرأ:
(وفاجأني الفراقُ وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودّعك يا عزيزتي، ولم أتحدّث إليك. . . وسافرتُ وما تدرين. . .!)
وخفق قلبها، وأحست مثلَ إحساس المفارقِ حِيلَ بينه وبين الكلمة الأخيرة؛ وعضت على شفتها؛ واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار تلهب!
وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتحصي ما بقى من ليالي البعاد!
تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم؛ فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت؛ وتضاعف إحساسها بالحياة مذ عرفت أن وراء اليوم غداً، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف حياتها - معاني جديدة لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعمر ليلها بالأحلام!. . .
ولمحت طفلاً يهمس في أذن رفيقه؛ فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثان. . .!
ووسع خيالها ما لم يكن يسع!
وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمد لها. . .
ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته. . . بل إنها لتعرفه يقيناً لا شبهة فيه. . . هكذا زعمت وهي خالية إلى نفسها تحدثها!