فالدين لم ينزل بالفضيلة من المساء، وإنما الاجتماع الإنساني هو الذي قررها. ثم جاء الوحي فأقرها، لأن الحسن والقبح عقليان يدركان بالعقل قبل الوحي، ولذلك عبر القرآن عن الحسن والقبيح (بالمعروف) و (المنكر) أي ما يتعارفه الناس، وما ينكرونه بطبائعهم العامة وأذواقهم المشتركة
ثم الواقع أن الخير الشخصي جزاؤه فيه والشر الشخصي جزاؤه فيه في هذه الدنيا قبل الآخرة. وكذلك الخير الاجتماعي والشر الاجتماعي جزاؤهما معهما في هذه الحياة إذا ما كان المجتمع حارساً متيقظاً لحقوقه وواجباته
هذا دفاع سلبي عن فكرة الإيمان بالله وفكرة الخير كأصل من أصول الحياة الاجتماعية. وقد سبق لي في العام الماضي أن كتبت في هذه المجلة سلسلة مقالات في الإيمان كحقيقة من الحقائق العليا في الحياة، وعرضت فيها لكثير من القضايا والشبه التي تشغل بالك وأوردتها في كتابك الأخير إليّ، فأرجو أن ترجع إليها فلعل ما فيها وما أنا بسبيله الآن يقع من قلبك الموقع المأمول
إن الذي عناني أكثر من غيره مما أوردته في كتابك هو شكك في القيمة السامية للإنسان ومحاولتك أن تجعل حياته كحياة النبات والحيوان والحشرات: ليست أكثر من ظواهر طبيعية ودورات أبدية تأنى بها أيام وتذهب بها أيام
ومعرفة قيمة الإنسان هي في رأيي أول المعاني الدينية؛ لأن الذي يذهل عن قيمة حياة الإنسان لا يمكن أن يتيقظ لشيء آخر. فلن يفكر في الكون ولا خالقه. فالذي لا يسترعي انتباهه هذا الجسم المتحرك المريد الناطق المتنوع الفكر لا يمكن أن يتنبه للصمت المطلق والسكون المطلق والاطراد المطلق في الطبيعة. ودع ما وراءها من العالم الخفي الذي لا يناله الإنسان بالحواس. . .
وأسألك: هل رأيت نوعاً آخر متسلطاً على الأرض بغير أوضاعها ويتصرف في موادها ويسخر قواها وينقح الطبيعة، يزيد فيها وينقص منها، متنوع المرافق متجدد الأفكار، له حياة فكرية وقلبية تكاد تكون لا حدود لمظاهرها؟
وهل رأيت غير الإنسان اخترع شيئاً يزيد عن ضرورات حفظ حياته؟ هل رأيته يكتب تاريخه أو يتطلع لمستقبله، أو يركب آلات معقدة، أو يغني أغاني مُفّنَّنَة، أو يستخرج