وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرض وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المستغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدّبرة، فعرفت صيدها وقالت له: أعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزّق الظُّلَلَ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاع الوحش المجوّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمٍلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأي أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى. فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفاً يكفل لهم معها أمرين:
الأول التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوا أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشئوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهدة كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقرون أصولاً تؤدي بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهدة جيلاً يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل؛ ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع
والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم - بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك - في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام - أي أهله - عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية؛ وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيداً يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت