للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونعمنا في طريقنا إلى القرية بسكون الليل وفتنة القمر ما شاء الله أن ننعم. ثم أراد صاحبي أن نسلك في عودتنا طريقاً أخرى. . .

- وماذا نبغي من هذه الطريق؟

- لنمر بمقابر هذه القرية لعلنا نجد الشيخ الكفيف المسلوب العقل في صحوة من صحواته هناك فأريك منظراً عجباً، وأحدثك حديثاً أعجب من العجب. . .

- شيخ كفيف مسلوب العقل يسكن هذه المقابر وهو حي؟

- أجل، وفي حفرة عميقة تشبه الجب لا يبرحها ليلاً أو نهاراً إلا إذا ثارت ثائرته فنهض منها ينفض عن بدنه وثيابه ترابها، ويمتشق عصاه فيلوَّح بها في الفضاء صائحاً:

كلاب! كلاب. . .

- وما شأن هذا الشيخ؟

- إن أكثر سكان الضاحية يعرفون خبره ومصرع ابنته فاطمة. إنهم يمرون به في طريقهم إلى السوق فيحسنون إليه بإلقاء بعض الطعام في حفرته دون أن يدنو منه أحد. إنه على ضعفه وكبر سنه وذهاب بصره وتخاذل قواه يفتك بمن يقترب منه. إنه يعاف ما يلقي إليه من الطعام فيظل أياماً لا يأكل منه شيئاً، كأنه يريد أن يعجّل في أجله فنأبى عليه الأقدار العاتية إلا أن يتعذب. . .

- وما خطبه صنع الله له؟

وكنا في مسيرنا قد أشرفنا على مقابر القرية، فبدت لأعيننا في وحشة الليل وجلال الصحراء كالأشباح المترامية بين الوهاد والآكام

لزم صاحبي الصمت، وسرت بجانبه مأخوذاً برهبة الموت، فلا هو استطاع أن يسترسل في حديثه عن الشيخ ولا أنا أصررت على أن يجيب

وكنا كلما اقتربنا من هذه المقابر الجاثمة في الفضاء زادت وحشتنا من سكون الليل الرهيب

- ٢ -

الآن نحن على حافة الحفرة العميقة التي اتخذها شيخنا المسكين مقراً، وهاهو ذا ملقى على ترابها في ثيابه المهلهلة بغير غطاء، وتلك عصاه التي حدثني عنها صاحبي يقبض الشيخ عليها وهو في غفوته ساكن لا يتحرك، وتلك أنفسه المتقطعة كأنها حشرجة الموت لا نسمع

<<  <  ج:
ص:  >  >>