إنه الآن يتململ في ضجته، لقد أيقظه السعال!! - ما أشد وقع هذه اللحظات الرهيبة على نفسي - هاهو ذا يئن متهالكاً على نفسه. . . إنه يعتمد على عصاه فيقف وكأنه ميت قام يجرجر أكفانه. . . وهاهو ذا يتحسس الطريق إلى الأرض المستوية
. . . إنه يمد عنقه، ويتسمع بأذنه، ويتشمم الهواء. كأنه أحس أنفاساً غريبة في جو المقبرة. وهاهو يتمتم بكلمات متقطعة
لقد ابتعدنا عن حافة حفرته حين صعد إلى الأرض المستوية. لكنني غالبت الخوف والرهبة فبقيت على مقربة منه أنظر إلى وجهه على ضوء القمر الساطع. . .
ما أروع هذا الوجه وما أحفله بالأسرار والمعاني. عينان أطفأ نورهما فعل السنين وجبين خطت فيه الشيخوخة سطوراً متعرجة من الغضون والتجاعيد، وأنف أشم أقنى، ورأس ضخم جلله المشيب، وجسم ناحل ضامر
وقف يجمجم بكلمات لا تبين، ثم لم لبث على هذا الحال كثيراً، وكأن قوة عاتية سرت في خذا الجسم النحيل الذاوي، فانتفض كالأسد الهصور يلوح بعصاه ويعدو في الفضاء
كان المسكين يحارب الهواء، وينازل الأصداء، وكنت في هذه اللحظة أحبس أنفاسي، وأتحاشى مواضع جولاته ومطارح عصاه. وكان في هذه الثورة الجارفة يكرر كلمة واحدة بصوت قاصف كالرعد: كلاب!! كلاب. .
ثم خارت قواه وانطفأت جذوة غضبه فراح يتهالك على نفسه ويجر قدميه يتمس مكان الحفرة التي صعد منها، وما زال كذلك حتى أحست إحدى قدميه مكانها فألقى بنفسه فيها فإذا هو جاثم كما يجثم العقاب الهرم لا حركة ولا نأمة
ودنا مني صاحبي - وكنت أستند إلى جدار مقبرة نائية كالمسحور لا أقوى على الحركة أو الكلام - فاجتذبني من يدي لنواصل السير، فمشيت بجانبه مأخوذاً من هول ما رأيت ذاهلاً عن كل شيء. وما زلنا حتى ابتعدنا عن هذه المقبرة وجوِّها المفزع لرهيب، ثم بدأ صاحبي يقول:
- يوم رأيت هذا الشيخ أول مرة تولاني من الفزع مثل ما تولاك. أما اليوم فقد ألفت مرآه، وإن كنت لا أزال أرثى لحاله وأجزع عليه أشد الجزع كلما تذكرت مأساته الدامية. .