- وهل للمسكين مأساة غير ذهاب بصره وعقله وارتمائه في هذه الحفرة بين الأموات؟
- إن هذه الحال الأليمة التي شاهدتها إنهما هي آخر مأساته. أما أولها فهو آلم وأوجع مما شاهدت. . .
- ٣ -
. . . ومضى صاحبي يتحدث عن هذا الشيخ فقال:
كان المسكين وجيهاً في قومه وأحد أغنياء قريته، مرموقاً بين أهلها بالتجلة والاحترام، واستنار في صباه بما قرأ من كتب الأقدمين والمحدثين، واستطاع بما وهبه الله من بصيرة نِّيرة وإحساس مرهف مشبوب أن يدرك مقدار ما يعاني فقراء قريته وعمالها المكدودون، وأرَّقه همُّ التفكير في شأن هؤلاء المساكين وما يعانون من ظلم الأغنياء وتحجر قلوبهم، فوهب حياته وماله في سبيل نصرتهم وحثهم على إدراك ما لهم في أعناق أولئك العتاة من ذوي النعمة واليسار، فراح يجمعهم حوله وينادي فيهم بمبادئه السامية. وكان عمدة القرية رجلاً عاتياً ظالماً فجمع لمحاربته كل قواه، وأخذ يكيد له من الجهر والخفاء ويوقع به في كل فرصة. وما زال الرجل يتلقى ضربات هذا الطاغية فيصمد لها مرة ينهزم أخرى حتى أوشك ماله أن ينفذ
وظل المسكين يجالد الأيام ويناضل العتاة من أهل قريته، وينفق من صبابة ماله على مواساة ذوي الحاجة والمعوزين حتى نضب معين ثروته فتنكرت له القرية بأسرها، وشمت به أعداؤه، ونفر من حوله أنصاره الذين أنفق في سبيلهم ماله وشبابه وجاهه. واسترسل عمدة القرية في النكاية به فألب عليه هؤلاء الأنصار الذين نعموا بثروته، واستناروا بآرائه، وجرَّد منهم جيشاً للتنكيل به وإيذائه
وأصبح المسكين؛ فإذا هو في القرية البائس اليائس الذي لا يملك من حطام دنياه غير دار صغيرة لا يفي ثمنها بما هي مثقلة به من الديون
وفي ذات مساء جلس الرجل في داره حزيناً كئيباً يتحدث إلى زوجه الوفية الحنون وينفض بين يديها جملة حاله، وقد جدعت الحاجة أنف العزة، فكاشفها بما آل إليه أمره، وكان يخفي عنها كثيراً مما أصابه من الخيبة والفشل. . .
ورأى آخر الأمر أن يرحل عن قريته تحت ستار الليل تاركاً داره دون أن يشعر بهجرته