أحد، واستقر رأيه على أن بصحب زوجه وابنته فاطمة التي كان قد رزق بها في آخر أيامه
وكانت الأيام قد غالته في بصره، فأصبح كفيفاً يدب على عصاه، وتألبت عليه الكوارث، فألحت علة الصدر على زوجه لوفيه، وأعوزه المال، فلم يجد منه ثمن الدواء!
خرج المسكين في جنح الظلام يحمل بعض الثياب والزاد. . . وخرجت معه زوجه تقوده إلى ظاهر القرية، وابنته الصغيرة تدرج إلى جواره، وهي لا تعرف من شأن هجرة أبيها وأمها شيئاً
وكان قد أجمع الرأي على أن يقصد العاصمة علة بحد بين أغنياءها محسناً كريماً يدفع عنه غائلة الحاجة فيمد إليه يد الرحمة بقية أيامه
وليست العاصمة بقريبة من قريته، فالشقة بعيدة والزاد قليل والبرد قارص، وزوجه المريضة يتولاها السعال، وتقسو عليها علة الصدر. كلما جد بهم السير. . .
لكن الشيخ إبراهيم مجاهد - وهذا اسمه - رجل غالب الأيام وصبر على أذاها، فهو لا يزال رغم ذهاب بصره وماله وشبابه الرجل القوي الشكيمة، وقد أراد أن يصل إلى العاصمة، فلا بد أن يصل. . .
ورأى الشيخ إبراهيم أن يجعل مسيره ليلاً ليتقي بالمسير غائلة البرد، ولكيلا يراه سكان القرى القريبة في غدوهم ورواحهم نهاراً، فظل يسير الليل ويستريح النهار حتى صار قريباً من العاصمة. . .
لكن العلة كانت قد اشتدت وطأتها على زوجه، وأنهك السير وحيدته لطفلة، وهو لا يزال - مع ذلك - يسكب في آذانهما كلماته العذبة الرقيقة يغريهما باقتراب العاصمة ويمنيهما بالراحة الدائمة في كنف المحسنين من سكانها العظماء!!
وكان قارص البرد يوغل في القسوة والشدة يوماً بعد يوم، واحتمال الزوج المريضة والطفلة الناعمة ينفد يوماً بعد يوم. . .
- ٤ -
في ليلة من تلك الليالي الجاهدة كان الشيخ إبراهيم وزوجه ووحيدته قد أشرفوا على قرية من قرى القليوبية. وكان السائر في طريق تلك القرية يرمي في هجعة الليل وإغفاءة الفجر