ثلاثة أشباح تترنح في الظلام الدامس من فرط الإعياء والجوع والبرد. أولئك هم التعساء الثلاثة في طريقهم إلى القرية
وقال الشيخ لزوجه: اسمعي يا عائشة!! هذا صوت المؤذن يجلجل: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أن الفجر يوشك أن ينبثق. سنصل إلى هذا المسجد القريب فأدرك الصلاة الصبح، وهناك نحتمي من هذا المطر المنهمر وننعم بدفء الشمس في الصباح هيا يا عائشة انهضي، اعتمدي علي منكبي فقد أوشكنا أن ندرك الغاية. .
وكانت المسكينة قد أخذتها نوبة السعال، والمطر ينهمر، والرعد يقصف، والسماء غاضبة، والليل موحش. وتهالكت على نفسها فنهضت تخفي بين جوانحها ما تعاني من ألم وضعف وتخاذل ومشت إلى جواره خطوات، ثم اشتدت عليها وطأة الداء، وأعياها المسير فسقطت تحت أقدام زوجها الضرير وظلت تئن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. والزوج يتحسس مكانها ولا يراها، ويتشمم أنفاسها الخافتة، ويتسمع دقات قلبها الموجع. . .
وفي هذه اللحظات الرهيبة دوَّي صوت المؤذن مرة أخرى:(الله أكبر. الله أكبر) وكانت الزوج قد لفظت آخر أنفاسها وأصبحت جثة ملقاة في وحل الطريق، طريق العاصمة. . .
وأدرك الشيخ أن زوجه قد ماتت فألهبت الفجيعة رأسه وراح يتخبط كالمجنون، ويصيح فتذهب صيحاته في سكون الليل بدداً. . .
وكان المؤذن لا يزال يدعو الناس إلى الصلاة فاختلط صوته بصوت ذلك المفجوع الذي وقف في الطريق يدعو الناس إلى عونه في مصابه
وظل الشيخ الضرير يتشمم جثة زوجه الوفية ويبلل وجهها بدموعه. أما وحيدته فاطمة فقد كان منظرها في سواد الليل وإلى جوار جثة أمها تصطك أسنانها من شدة البرد وتبكي من ذوب قلبها دموعاً - منظراً يذيب قلب الحجر. . .
. . . ثم مضى الليل! فوا رحمتاه! كيف مضى؟!
وكان الصباح. . .
وبكر فلاحو القرية بالماشية إلى مزارعهم، وانتشروا على ظاهر الطريق يتلاقون على تحية الصباح، ثم رأوا ذلك الشيخ الضرير يحنو على جثة زوجه، ورأوا وحيدته الطفلة وقد ارتمت في أحضان أمها خائرة تبكي وتئن