للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واجتمع أهل القرية على فعل الخير فأعانوا هذا الضرير المرتحل فواروا جثة زوجه التراب. وظل الشيخ مع ابنته في مقبرة القرية أياماً طوالاً لا يبرحها ولا يكف عن النحيب، ووجد زاده من جود أهل القرية، فكانوا يمدون إليه يد الإحسان يوماً بعد يوم

ثم رأى الشيخ أن يرحل عن المقبرة إشفاقاً على وحيدته الطفلة، وأن يمضي بها إلى غايته، فقد أصبح على مقربة من العاصمة. . . فليعش من أجل هذه الطفلة الغريرة، وليجد لها سبيل العيش في كنف رحيم من ذوي اليسار هناك

- ٥ -

وصل الشيخ إلى ضاحيتنا على حافة الصحراء، واقترب من المدينة الآهلة بذوي البر والثراء وأصبحت منه على بضعة كيلو مترات، وجلس يستريح من وعثاء الطريق، وراحت ابنته تلعب من حوله وتطفر في دفء الشمس لاهية

ونظرت الطفلة فرأت قصراً كبيراً تحيط به حديقة غناء ذات سور من القضبان الحديدية، وكان أبوها قد أحس ببعض الراحة وبعض الدفء فأغفى إغفاءة المتعب المكدود، وعدّت الطفلة نحو سور القصر تنظر من بين قضبانه لترى أشياء وأشياء لم تكن رأت مثلها من قبل، وأطلت على الحديقة، فلم يكد نظرها يقع على ما في ادخلها حتى عادت إلي أبيها تعدو فأيقظته - وقد راعها ما رأت - ثم راحت الكلمات تتناثر من فمها الصغير في غير ترتيب

- قم يا أبي، قم ولا تنم، تعال انظر ما في هذه الحديقة، وكأن المسكينة نسيت أن أباها لا يستطيع أن ينظر. . . تعال يا أبي لأريك دنيا غير دنيانا. نظرت هنا يا ألبي من بين القضبان في حديقة هذا الدار الكبيرة فرأيت الأرض كلها مفروشة بشيء أخضر يشبه الزرع الذي نزرعه في بلادنا، لكنه ناعم ملتصق كله بالأرض، ورأيت الأرض التي يمشي عليها الناس مفروشة بشيء أصفر يشبه الدقيق لكن الدقيق أبيض، ورأيت رجالاً كثيرين يذهبون إلى آخر الحديقة من الجهة الأخرى ويفتحون أبواباًُ صغيرة فتخرج منها كلاب تجري في الحديقة. . . أي والله إنها كلاب يا أبي تشبه كلاب بلدنا، إنها كثيرة جداً أكثر من كلاب بلدنا جميعها؛ إن الناس هنا يا أبي يلبسون الكلاب ثياباً خضراً من القطيفة كالتي كنت ألبسها وأنا صغيرة ويصغون في رقابها أطواقاً تلمع مثل الذهب كالتي كانت أمي

<<  <  ج:
ص:  >  >>